img
img

الثوابت والمتغيرات في العمل الدعوي

img
منصة كلنا دعاة

الثوابت والمتغيرات في العمل الدعوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسل نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين .. وبعد :

اللهم اجعل عملنا صالحًا ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لغيرك فيه نصيبًا يا رب العالمين.

مرحبًا بكم أيها الإخوة الكرام الدعاة إلى الله. مرحبا بكم يا من امتثلتم قول ربكم تبارك وتعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125]، وقوله: ﴿وَادْعُ إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]، مرحبا بكم يا من تسلكون درب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قيل عنه في القرآن: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إلى اللَّهِ [يوسف:108]، مرحبا بكم أهل العقل والحكمة والاتزان كما أمر الله عز وجل ﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

موضوعنا الثوابت والمتغيرات في العمل الدعوي. وقبل أن ندخل في لب الموضوع نحتاج إلى أربع مقدمات أساسية رئيسية. لو أنك أخي الكريم خرجت بها من هذا الموضوع ستكون بإذن الله قد خرجت بالهدف والغاية التي من أجلها أعددتُ هذا الدراسة.

المقدمة الأولى: أن كل مسلم بلا شك عليه دور ولابد أن يحمل نفَسًا دعويًّا؛ بأخلاقه، بسلوكه، بكلامه.. لابد أن يتحرك داخل كل مسلم أنه ممثل للإسلام وأنه رسول لهذا الإسلام وأنه مبلغ رسالة الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: بلغوا عنِّي ولو آية. لكن هناك فئة من الناس نذرت نفسها من أجل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، سخرت جهدها ووقتها ومالها بل وروحها من أجل دعوة الناس إلى دين الله عز وجل؛ هؤلاء في المقام الأول هم المخاطبون بحديثنا هذا.

المقدمة الثانية: إذا كنا نخاطب هذه الفئة التي تعمل في إطار الدعوة إلى الله بالمفهوم الذي أصبح علامة على أناس بعينهم يشتغلون في إطار التعليم والتربية، لكننا في ذات الوقت لا نستطيع أن نستبعد الذين خاضوا غمار السياسة أو الذين حملوا أرواحهم على أكفهم ورفعوا راية الإسلام وأعلنوا الجهاد في سبيل الله، ففصائل العمل الإسلامي سواء السياسي أو الجهادي أو الدعوي كلها تهدف إلى غاية عظمى وهي هداية الخلق. كلهم يكررون كلمة ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه: "ابتعثَنا الله لإخراج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" فأصحاب مناهج التغيير والبحث عن التمكين كلهم يسعون لتحقيق معنى قوله تعالى كما في سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] وفي سورة الأنفال ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، كلهم يسعى للدخول تحت قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]؛ فهؤلاء داخلون أيضًا معنا في معرض حديثنا.

المقدمة الثالثة: تتعلق بكون الداعي إلى الله قائمًا بوظيفة المبلِّغ عن الله. فهذا المبلغ عن الله لابد أن يكون متشبعًا بما يدعو إليه علمًا وعملًا، فإذا كان العلم لازمًا للداعية بالقدر الذي يُمكنه من بيان وتوضيح ما يدعو إليه، وكذلك دفع الشبهات وجواب الإشكالات التي تُرمَى عليه، فهو كذلك لابد أن يمتثل عمليًّا ما يدعو إليه، حتى يتشبع بالقناعة الداخلية الكافية لِأن يبقى باذلًا وأن يبقى داعيًا إلى الله تبارك وتعالى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى يكون مقنعًا لهؤلاء الذين يقوم بدعوتهم؛ فطبائع الناس أنها لا تقبل من إنسان دعوة إلى شيء قبل أن يجدوه وأن يروه أول الممتثلين لهذا الأمر.

المقدمة الرابعة: اعلم يا رعاك الله أنك لست الإسلام بل جزء منه، وأن مذهبك هو محاولة جادة لفهم الإسلام، وأن جماعتَك جماعةٌ من المسلمين وليست جماعة المسلمين، وأنك ومذهبك وجماعتك عرضة للخطأ ومجانبة الصواب. وأن المشاركين لك في الطريق من المذاهب والجماعات الأخرى لهم ما لك من احتمالية الإصابة والخطأ، ومِن ثَم لهم ما لك ولأفراد جماعتك ما للمسلمين عمومًا من حقوق الولاء لأهل الايمان. فالحق أيها الإخوة الكرام مكتمل في هذه المذاهب العملية والدعوية لا يخرج عنها، لكنه عند اختلافهم لا يكون منحصرًا في واحد منها.

 

أما فيما يتعلق بالموضوع الكبير الذي نتكلم عنه وهو: الدعوة إلى الله زمن الفتن. لماذا نخص زمن الفتنة؟ الدعوة إلى الله مطلوبة دائمًا، والتعليم مطلوب دائمًا، لا ينبغي أبدا أن يقصر المسلمون في ذلك، ولا أن يتركوا مثل هذا العمل العظيم إلا ويبذلوا فيه في كل وقت وفي كل ظرف وفي كل مكان، لكن زمن الفتن له خصيصة تميزه، فتؤكد الحاجة إلى العلم والتربية والدعوة إلى الله عز وجل.

فزمن الفتن زمن تختلط فيه المصالح بالمفاسد لا تكاد تستطيع أن تخرج مصلحة خالصة كاملة ولا مفسدة خالصة كاملة؛ بل تتداخل المصالح مع المفاسد فتضطر آسفًا أن تبحث عن أعلى المصلحتين لتجلبها وتفوت مصلحة أخرى، وعن أعلى المفسدتين فتدفعها ولو بقبول مفسدة أخرى.

بالطبع الداعية إلى الله لابد أن يكون عنده من معالم هذه الشريعة، ومن مقاصد هذه الشريعة الخمسة المعروفة: الدين النفس والعرض والعقل والمال. هذه في الجملة يعرفها الكافة، لكن تفصيلاتها تختلف، فقد يأتي مثلًا من يتكلم في مسألة من المسائل على وجه الوجوب وهي كذلك في أقوال أهل العلم، لكنه يقارنها بإزهاق النفس أو تعريض النفس لضرر شديد بدعوى أن مقصد حفظ الدين مقدم على حفظ النفس؛ فيهلك نفسه من أجل شيء صحيح هو من الدين لكنه ليس الدين، نحن في الجملة نقول الدين مقدم على النفس، لكن في التفصيلات هناك بعض الأمور داخل الدين يمكن أن تحفظ النفس ولو كان على حسابها، وبالطبع هذا يحتاج إلى تقدير دقيق جداً، يحتاج أن يتعلم الداعية تفصيلات هذه المقاصد، ومن ثَم من تقديم الأولويات وترتيبها ترتيبًا صحيحًا.

هذا ما قصدنا إليه في هذه المقدمة.

لب هذا الموضوع هو في كتاب كتبه الدكتور صلاح الصاوي حفظه الله منذ أكثر من أربعين عامًا، الكتاب أسماه "الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر". هذا الكتاب يتكلم عن عدة مسائل كلها تصب في النهاية في الواقع المعاصر. فقد قسّم العمل الإسلامي المعاصر إلى ثلاثة أقسام رئيسة؛ وهي التي أشرنا اليها في مقدمة الحديث. الذين يمارسون العمل السياسي، والذين يمارسون العمل الجهادي، والذين يمارسون العمل الدعوي والتربوي. وفي تقسيمه للكتاب بدأ أولا بالحديث عن الهدف من هذا التعريف بقصة الثوابت والمتغيرات، وما الذي يحصل عليه الدارس لهذا الكتاب. هذا الذي ذكره الشيخ: "بلورة الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع فيما اشتجرت فيه كيانات العمل الإسلامي، لتكون إطارًا جامعًا وقاسمًا مشتركًا يلتقي عليه، ولتكون وحدها معقد الولاء والبراء".

نحن الآن نعاني من إشكالية العصبية الحزبية وأن كل جماعة تنظر إلى نفسها على أنها هي الإسلام وأن الجماعات الأخرى لا تمثل الإسلام ولا تعبر عن الإسلام ومن ثم أصبح الولاء قاصرًا على أبناء هذه الجماعة أو المنتمين إليها، وأصبح التعامل مع الآخرين تعاملًا سيئًا جداً يصل في بعض الأحيان لما يشبه التعامل مع غير المسلمين!

قال: "وكذلك بلورة جملة من الثوابت النسبية". إذا القسم الأول متعلق بالثوابت القطعية، القسم الثاني متعلق بالثوابت النسبية. والثوابت النسبية هي التي تقترب جدًا من الثوابت قطعية أو الثوابت المطلقة؛ لأنك تقول هذه المسألة أجمع عليها العلماء أو أجمع العلماء فيها على قول معين، ثم في مسألة أخرى تجد جماهير العلماء على قول، ثم هناك قول شاذ يصفه أنفسهم بهذا. هناك قول شاذ موجود في بعض المذاهب أو في بعض الكتب يعتمد عليه البعض لإثبات أن المسألة خلافية ولابد أن نقبل فيها بتعدد الآراء!! فهو يقول هذه أيضاً تدخل في جملة من الثوابت النسبية التي ينبغي أن تراعيها الحركة الاسلامية. لذلك بينها بقوله: "وهي بعض الاختيارات العلمية الراجحة التي ينبغي أن تتفق عليها الحركات الإسلامية كافة لتمثل مع الأولى -التي هي القطعية- الإطار العلمي الذي يجمع كيانات العمل الإسلامي المعاصر. ويقيها فتنة التشرذم والاختلاف. ثم التمييز بين هذا كله وبين ما وراءه من بقية الظنيات ومحال الاجتهاد التي لا يجوز أن تتفرق بسببها الصفوف، أو أن يعقد على أساسها ولاء وبراء"، أو ينكر فيها على المخالف إنكارًا يؤدي إلى تأثيمه أو إخراجه من جماعة المسلمين. بالطبع يمكن أن ينكر إنكار علمي، يعني المناقشة والمدارسة العلمية التي تجعل كل صاحب رأي يحاول أن يثبت صحة وجهة نظره، وأنه هو صاحب الدليل الصحيح، وأنه هو الذي ينبغي أن يتبعه المسلمون. هذا لا ضير فيه. هذا نقاش علمي حصل قبل ذلك بين المذاهب الفقهية وهو مستمر ويحصل الآن وسيحصل وسيبقى موجودًا إلى يوم القيامة. لكن هل يجوز أن يجرنا هذا الخلاف العلمي إلى صراع داخلي؟ أو إلى إحداث مشكلة داخل الصف الإسلامي؟ وأن نستجلب موارد النزاع ونضعها مكان موارد الاختلاف الصحيحة الطبيعية التي تحصل بين المسلمين وبعضهم البعض؟ هذا ما لا يجوز أبدًا.

من هنا كانت فكرة "الثوابت" ليعرف المسلم أن هذه أمور قطعية لا ينبغي الاختلاف فيها، و"المتغيرات" وأنها أمور ظنية يمكن الاختلاف ويعذر المسلمون بعضهم البعض في العمل بهذا القول أو العمل بالقول الآخر، وأكثر ما نجده من تهارج وتنازع بين الحركات والجماعات الإسلامية الموجودة حاليًا والتي تهدف في جملة أهدافها إلى استعادة الخلافة أو إعلاء راية الدين، أو دعوة الناس إلى الإسلام ودخولهم في الدين أفواجا؛ نرى أكثر هذه الخلافات من الممكن أن تدخل في إطار المتغيرات، في إطار الظنيات، في إطار المتشابهات التي يتعايش المسلمون في ضوئها دون أدنى مشكلة.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا تكلم أولا فيه عن مسائل نظرية علمية متعلقة بالاجتهاد ومناهج الاستدلال. هذه مهمة بالنسبة لأي طالب علم وأي داعية. منهج التلقي والاستدلال ينبغي أن يكون ثابتا عند المسلم في بنود محددة. ثم هو بعد ذلك يطلع على ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد؛ وعلم أصول الفقه قد خصص لهذا المبحث ركنًا من أركان هذا العلم، ثم بعد ذلك كان كلامه عن مسائل متعلقة بالعقيدة، كأصول الإيمان والتوحيد. هذه أمور عقدية، الأصل ألا خلاف فيها أساسًا بين المسلمين، لكنها مطروحة هنا للفت النظر إلى أن بعض المتعلقة بقضايا الإيمان وقضايا التوحيد وقع فيها خلاف بين أهل العلم، فلابد أن تراعى هذه التفصيلات ويراعى الخلاف الذي وقع فيها بين العلماء على مدار التاريخ لأنها قضية متعلقة بدخول الجنة أو دخول النار.

بعد ذلك كان الكلام عن الإعذار وما يسمى بعوارض الأهلية، وتكلم فيها عمّا يسمى بالإكراه وعن الجهل وعن التأويل كعوارض تعرض على الإنسان تجعله معذوراً حيث يقع فيما ليس من شأنه أن يقع فيه، والضبط في هذا كله يرجع لأهل العلم هم الذين يقولون هذا جاهل لا تتنزل عليه الأحكام أو أنه مكره تتنزل عليه أحكام الضرورة، أو أنه متأول يمكن أن يغتفر له ما سقط فيه وأخطأ.

ثم بعد ذلك كانت المباحث الستة التي هي النصف الثاني تقريبًا من الكتاب. وكلها تتعلق بجماعة المسلمين ومناهج التغيير، فتكلم أولًا عن فكرة جماعة المسلمين، وله كتاب خاص بهذا العنوان، وتكلم عن العمل السياسي والأحزاب التي تُشكل داخل الحركة الإسلامية من أجل نصرة الدين، ومن أجل إعلاء كلمة رب العالمين، ومن أجل دعوة الناس كذلك إلى الإسلام، وكذلك العمل الجهادي وما يعتريه ويحتويه من أمور وتفصيلات، وفي هذا العمل ثوابت لا بد أن يلتزم كل من دعا إلى الجهاد، ومتغيرات تقبل الأخذ والرد، تقبل القول والقول الآخر.

ثم كان مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفصله عن مبحث العمل الدعوي والتربوي رغم التداخل بينهما، فالدعوة إلى الله فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالدعوة إلى الله دائرة أوسع من دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أمور الموازنات والمرحلية والمنهجية في الدعوة إلى الله أكبر بعض الشيء مما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يلزم المسلم مع كل منكر يقابله أن ينكره إما بيده، وإما بلسانه وإما بقلبه وذلك أضعف الإيمان، كما وصف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. المهم أن أمر الدعوة إلى الله أمر قد يدخل فيه المنهجية، ويدخل فيها الفكر، ويدخل فيها الموازنات الكثيرة، وعلى سبيل المثال: قد يرى إنسان في الشارع إنسانًا آخر يفعل شيئًا محرّمًا فينكر عليه مباشرة، إما أن يأخذ على يده إذا كان آلة أو أداة من المحرمات، وإما أن يكلمه بلسانه فيعظه ويزجره، وإما أن يتركه وينفضّ عنه، وهذا يسمى الإنكار بالقلب. هذا موقف حال يحتاج إليه، لكن أحيانًا يكون هذا الواقع في المنكر صديق أو قريب أو اخ، ولي معه دعوة متدرجة منهجية، في هذه الحال أقبل منه ما يطيع به وما يضع به رجله على طريق رضا الله عز وجل، وأسكت عن بعض المنكرات التي يقع فيها ليس رضا بها، ولكن لأنها ستأتي في وقتها الصحيح عندما يحين الوقت المناسب، عندما أشعر أن إيمانه يتحمل الإنكار في هذه المسألة، عندما أشعر أن قدمه قد ثبتت في طريق الطاعة والالتزام بأمر الله عز وجل، بحيث يتحمل أن أصل حتى إلى هَجْره كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك وصاحبيه، عندما أجد أنه يتحمل هذا أواجهه وأشد عليه كي يترك هذا الأمر، في حين أنني في المراحل الأولى أترك أو أسكت عن بعض المنكرات وبعض الأخطاء التي يقع فيها. فهذا فارق دقيق بين أمر الدعوة إلى الله وأمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم وضع الشيخ حفظه الله في آخر الكتاب بابًا خاصًّا متعلقًا بمسألة تعدد كيانات العمل الاسلامي. ما هو المشروع داخل هذا التعدد، وما ليس مشروعًا؟ ما هي الثوابت المتعلقة بهذا التعدد وما لا يعتبر من الثوابت، ثم طرح رؤية من أجل التقريب والتوفيق بين هذه الحركات والجماعات وبعضها البعض.

نحن سنأخذ من هذا الكتاب الذي عرضنا له عرضًا سريعًا المبحث الأول المتعلق بقضية منهج التلقي والاستدلال، وكذلك ما يتعلق بالعمل الدعوي والتربوي.

ينبغي أن نعلم أن مخرجات كل إنسان، كل مجتهد، كل مفكر، كل من يقوم بدوره لإنتاج شيء ترجع في النهاية إلى الأصول التي يبني عليها، والآلة الموجودة بيده ليخرج إنتاجًا.

عندنا مثلًا علم أصول الفقه؛ علم متخصص في موضوع الأدلة الشرعية، ما هي الأدلة التي يحكم من خلالها على أفعال العباد، وكيف تدور رحا هذه الأدلة حتى تخرج الأحكام الخمسة التكليفية المعروفة بناء على قول الجمهور وعلى قول الأحناف السبعة؟ كيف ننتج الوجوب؟ وكيف يحكم العالِم بالحرمة؟ متى يقول هذا مباح أو أن هذا مستحب أو غيره مكروه؟ هذه ترجع في الأصل إلى منهج التلقي، إلى الطريقة التي تشربها هذا العالم، أو المنهج الذي تشربه هذا العالم كي ينظر بعد

ذلك فيقول هذه الآية تدل على وجوب كذا، أو هذه الآية تدل على حرمة كذا .. وهكذا.

وهذه المسألة في جملتها تكاد تكون متفقًا عليها بين الدعاة إلى الله، والعاملين لنصرة دين الله عز وجل، لكن دخلها الخلل في بعض الفروع، وخاصة فيما يتعلق بأمر العقل، فالذين ينشأ عندهم تعارض بين النقل الصحيح وبين العقل الصريح يحدثون هذه المشكلة ويتكلمون فيها من هذا المنطلق. طبعًا قديمًا المعتزلة فخموا وعظموا وكبروا دور العقل جدًا حتى جعلوه مقدمًا على النص الشرعي، حيث قالوا: إن مناط التكليف أصلا هو العقل، فإذا كان العقل هو الذي سيفهم النص فالعقل أولًا، فإذا كان العقل أولًا في ترتيب الوجودي فلابد أن يكون أولًا في ترتيب الأدلة. وهؤلاء يفترضون أن نصًّا صحيحًا لا يتماشى مع عقل سليم ناضج أو مع مُسَلّمة عقلية. هم يفترضون هذا ومن الممكن أن يحدث وقتها أن نقدم العقل على النص. هذا إشكال سنتكلم عنه إن شاء الله بعد قليل، لكنه هو لب ما يظهر من مشكلات داخل هذا المبحث وداخل هذا الباب. طالب العلم الداعية إلى الله لا بد أن يستقيم عنده هذا المنهج واضحًا.

الثابت الأول: أن هذه الشريعة أصلا لأجل إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدًا لمولاه. هذه الكلمة التي قالها الشاطبي رحمه الله تثبت عند الداعي إلى الله منهجاً في التعامل. أنت أيها الداعي لا تأتي لإرضاء الناس ولا لتطويع الشرع بناء على أهوائهم أو رغباتهم. بل إن النص الشرعي الواضح صريح جاءك بقوله: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وفي المقابل: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، فإياك وهؤلاء اصحاب الأهواء، وإياك أن تنجرف خلفهم، واعلم أنك مأمور بأن تلزم مسار وطريق هؤلاء الذين يدعون ربهم تبارك وتعالى ويطيعونه في كل أمور حياته.

الثابت الثاني والقطعي الثاني الذي ينبغي أن بكون واضحًا عند الداعية هو: أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى إنما هو الشرع لا غير، فلا تحل معارضته بذوق أو وجد أو رأي أو قياس أو نحوه. رغم أن القياس سيأتي معنا ضمن الأدلة الشرعية، لكنه لا يقدم على النص الشرعي، لا يقدم الإنسان ما يستشعره في خاصة نفسه على النص الشرعي، لا يقدم إنسان ما يراه في رؤيا على النص الشرعي؛ فكل هذه الأمور لا تقدم أبدًا على النص بل النص قاطع في دحضها ومحوها تمامًا عند التعارض والتقابل.

قال الشافعي رحمه الله: "لم أسمع أحدًا نَسبتُه إلى العلم، أو نَسبتْه العامة إلى عالم، أو نسب نفسه إلى علم؛ يحكي خلافًا في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه؛ فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة"، الكتاب والسنة والإجماع، وعندنا النص الواضح الصريح من قوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وكذلك ما استدل به العلماء على حجية الإجماع من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

الثابت الثالث في هذه المنظومة: أن الأصل في فهم الكتاب والسنة والألفاظ الشرعية أن يكون على منهج السلف الصالح. هؤلاء الذين عاصروا نزول هذا الوحي فلا بد أن يكون فهمهم مُقدمًا على فهم أي أحد بعدهم. هؤلاء الذين نزل الوحي أصلًا فيهم وبين أيديهم، كثير من الوقائع التي حصلت للصحابة كانت سببًا لنزول الآيات، أو سببًا لأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم قولًا ما، أو أن يثبت حكمًا ما، فهؤلاء أولى الناس وهم المقدمون في فهم الكتاب والسنة.

والمقصود بالسلف هم القرون الثلاثة الأولى المذكورين في قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). فالصحابة والتابعون وتابعوا التابعين هم أولى بفهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. لذلك قال أحمد بن حنبل: "أصول السنة عندنا التمسك بما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة".

الثابت الرابع: أن صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول. هناك كلام قاطع واضح لابن القيم في أن كل من توهم تعارضًا بين النص وبين العقل فهو مخطئ على كل حال؛ فالنص قد يكون ثابتًا وقد لا يكون ثابتًا، وكذلك العقل قد يكون سليمًا، وقد لا يكون سليمًا، فهذه قسمة رباعية زاد فيها بعض أهل العلم فجعلها قسمة أكبر من ذلك، حيث أدخلوا فيها الظني والقطعي. الظني والقطعي في النصوص والظني والقطعي في المعقول، فما كان قطعيًّا في النصوص لا يتعارض مع ما كان قطعيًّا في المعقول، يعني ما أجمع عليه العقلاء لا يتعارض مع ما قطعت الأمة بصحته وثبوته ودلالته؛ لأن القطعي والظني إنما ينقسم إلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة وظني الثبوت وظني الدلالة. فهنا إعمال هذه المنظومة مع بعضها تجعل الناتج الأخير أن ما أجمعت العقول السليمة عليه لا يتعارض أبداً مع القطعي الدلالة القطعي الثبوت من الكتاب والسنة، وهذا أمر مشاهد معروف، والنظر إلى الأبحاث والدراسات العلمية بشكل متسرع بحيث يقطع الإنسان بأنها علم صحيح يرد آية أو حديثًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخ وقع فيه الكثيرون، وبعدما جاء علماء آخرون وأثبتوا ضعف هذه النظريات، وأنها ليست صحيحة، أو أنها ليست مسلّمة، وان فيها شيء من الخلل أو الخطأ أو ما شابه ذلك، عندما حصل هذا بان لهؤلاء المتسرعين أنهم سقطوا في الفخ. كذلك بعض إخواننا المتحمسين يأخذون معنىً من المعاني الواردة في الكتاب والسنة، دون النظر هل هذا المعنى أصلا صحيح أم لا؟ هل هذا أصلا مقطوع به أم لا ثم يحاول أن يغالب به أمورًا علمية ثابتة قطعية، ثم مع الوقت عندما يظهر له الاختلاف، ويظهر له أن ما كان يبني عليه ويظنه مقطوعًا به ليس كذلك؛ يعرف أنه كان قليل العلم، وكان بحاجة للتريث والتمهل قبل أن يستعجل وينكر أمورًا علمية ثابتة.

فالشرع الذي كرّم بني آدم على غيرهم من المخلوقات، وجعل العقل مناطًا للتكليف، قد وضع هذا العقل في مكانته اللائقة به، لكنه كذلك لم يجعله مقدّسًا، فهو كذلك يصيب ويخطئ، والأهم من ذلك أن هذا العقل عندنا لا يستطيع أن يستوعب الأمور الغيبية التي لم يشاهدها ولم يتعامل معها وفق المحسوسات. هذا العقل لابد أن يرى، لابد أن يسمع، لابد أن يتحسس، لابد أن تعمل حواسه كي يدرك حقيقة الشيء، لكنه إذا لم تعمل عنده هذه الحواس لا يستطيع أن يدرك حقيقة وكنه الذي يبحث عنه، فهو الآن مثلا إذا أراد أن يصور لنا الجنة بتصوير زائد عما ورد في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع؛ لأنه لم يدخل الجنة؛ لأنه لم ير الجنة، فغاية ما هنالك أنه عرف الجنة وما فيها من خلال النصوص الواردة له في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. نفس الكلام يقال عن الذات الإلهية، مهما اجتهد هذا العقل في تصور الذات الإلهية ومحاولة تشبيه صفاته أو تجسيمها فيعجز بلا شك؛ لأنه لم ير الله تبارك وتعالى، لم يعاينه حتى يتمكن من هذا الأمر.

الخلاصة: أن العقل في مكانة عالية عندنا في شريعتنا، لكن هذه المكانة لا تتجاوز به السقف الذي لا يستطيع أن يتجاوزه، ويعجز مهما أوتي من المقومات والأدوات أن يتجاوز هذا السقف. فهذا بالنسبة لأمر العقل.

الثابت الخامس: أن حديث الآحاد وإن كان الأصل فيه أنه يفيد الظن، ولكن إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق، أو احتف به من القرائن مما يوجب العلم، أو اتفقت الأمة على العمل به فإنه يفيد العلم القطعي. والمثال على ذلك حديث: إنما الأعمال بالنيات. هذا حديث آحاد في كل طبقات إسناده. بل حديث فرد غريب، الأصل أن الأحاديث التي جاءت بهذه الطريقة تفيد غلبة الظن -يعني الرجحان- هذا في الجملة يعني أن هناك احتمالًا آخر ولو كان مرجوحًا، هناك احتمال آخر ولو كان مرجوحًا، العلماء يضعون هذا في حساباتهم وإن كانوا يرجحون الراجح على المرجوح. إلا أن أحاديث الآحاد التي احتفت بها بعض القرائن لدرجة أنك لا تكاد تجد خلافًا عمليًا عليها. حديث: إنما الأعمال بالنيات يدخل في عامة أبواب الأحكام الشرعية، وكل العلماء على مر العصور والدهور يستدلون بها وبه ويضعونه عمدة في هذا الباب.

خذ حديثًا آخر وقع فيه الخلاف. وهو حديث: لا ضرر ولا ضرار. اختلف العلماء في إسناد هذا الحديث هل هو حديث ثابت بالسُّنة أم لا، لكن خرجت قاعدة فقهية بهذا النص أو البعض يذكرها ويقول: "الضرر يزال". قاعدة فقهية.

جاءوا بهذا الحديث أو بنص هذا الحديث وأوردوا عليه آيات كثيرة وأحاديث كثيرة ومواقف كثيرة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لتثبت معناه، فيقولون: هذا الحديث وإن كان مما يُختلف في إسناده إلا أن معناه قطعي. ومن ثَم فإن الاحتجاج بأحاديث الآحاد في مسائل الاعتقاد أمر صحيح، بعض أهل العلم خالف في ذلك وخلافهم شاذ في الجملة، بحيث قالوا حديث الآحاد لا يدخل في مسائل الاعتقاد وهذا ليس صحيحا. والشيخ الألباني رحمة الله عليه له رسالة رائعة في هذا الموضوع.

"حديث الآحاد حجة بنفسه في العقائد والأحكام" لماذا لأن هناك قرائن كثيرة تعمل في عدد غير قليل من هذه الأحاديث فيرفعها من منزلة الظن إلى منزلة القطع. كذلك إن الذين يقولون بصحة هذه الأحاديث يجب عليهم أن يعتقدوا مضمون ما فيها، ويجب عليهم أن ينقلوا ذلك لأتباعهم طالما كانوا علماء مجتهدين عندهم من العلم ما يؤهلهم للحكم على هذا الحديث بالصحة؛ فمسألة حديث الآحاد لا بد أن توضع في موضعها الصحيح. نعم الأحاديث التي اختلف فيها بعض يصححها وبعض الناس يضعفها، الذين صححوها يبنون عليها أحكام، والذين يضعفونها إذا لم يجدوا لها شواهد واضحة من الآيات أو من الأحاديث الأخرى، فإنهم لا يعملون بالأحكام الموجودة فيها، هذا يجعلها في منزلة الاختلاف السائغ المقبول الذي تكلمنا عنه في مقدمة هذه الدراسة.

الثابت السادس يتعلق بالإجماع: فإذا كنا نثبت حجية الإجماع وأنه دليل ثابت قطعي. لكن هذا الإجماع نفسه منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني. فأحيانًا تجد أمرًا من الأمور حُكي عليه الإجماع. لكنك عندما تبحث وتنقب تنظر في كتب المذاهب الفقهية تجد المسألة فيها نوع من الاختلاف، وأن الذي حكى الإجماع أخطأ في حكايته، أو أنه ليس متحريًّا أو ليس متخصصًا بالدرجة التي تجعل حكايته للإجماع أمرًا مسَلّمًا ومقبولًا عند علماء الأمة؛ لذلك بحثوا خلفه وتحروا حتى تأكدوا من صحة أو خطأ ما يقول، فالإجماع أصلًا دليل قطعي، لكن عندما تجد علماء قد اختلفوا في إثبات بعض أنواع أو مسائل الإجماع، هنا ينبغي أن تتوقف وتنزل بهذا الإجماع من درجة كونه قطعيًا إلى درجة الظنّي.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإجماع نوعان: قطعي. فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص. وأما الظني فهو الإجماع الإقراري أو الاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدًا أنكره -في التفسير- فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع به النصوص المعلومة به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي".

الثابت السابع والأخير. القياس الصحيح: القياس الصحيح حجة معتبرة في تقرير الأحكام. هذا أمر مهم جدًا، في بداية الأمر قد نقول الاحتجاج بالقياس اختلف فيه أهل العلم، أو وقع فيه شيء من الخلاف بين أهل العلم. نقول إن هذا الخلاف في جملته ضعيف. هناك خلاف في مسائل القياس وأنواعه ودرجاته، ومتى يكون صحيحًا ومتى لا يكون صحيحًا، لكن إذا فُهم أن هذا القياس صحيح وأنه قد ورد موردًا لا يتعارض مع أصول وثوابت وقطعيات الشريعة، فإنه في هذه الحالة يكون حجة معتبرة، والذين رفضوا القياس كابن حزم وغيره استدلوا بالقياس في مسائل كثيرة، ولم يجدوا حجة يستدلون بها إلا القياس، وفي مسائل وقعوا فيها في حرج وعنت ومشقة وخالفوا بعض ما يمكن أن يقال أنه إجماع لعلماء الأمة قبلهم.

ما هو القياس: هو إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لاشتباه في علة الحكم. هذا أمر يقوم به العلماء الذين فطنوا للعلة الموجودة في النصوص الشرعية، ويستطيعون من خلال هذه الفطنة أن يقيسوا بناء على ذلك، والا فالنصوص في النهاية لها أول ولها آخر، أما الحوادث والأمور المستجدة فغير متناهية، لا تنتهي طالما أن الناس أحياء، وطالما هناك حياة فوق هذه الأرض هناك مستجدات، كيف يستطيع أهل العلم بالإسلام أن يواكبوا هذه المستجدات؟ لا يمكن لهم هذا إلا من خلال إعمال القياس الصحيح، وإلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه طالما حصل الاشتباه في علة الحكم.

 

المتغيرات:

وهي الأمور التي تقبل الاختلاف والنزاع داخل دائرة منهج التلقي والاستدلال:

الأمر الأول: ماهية الإجماع الذي يعتبر من أصول الشريعة:

هذا الإجماع أصلًا من الثوابت، لكن هل إجماع الصحابة هو المعتبر؟ أم إجماع القرون الثلاثة الأولى؟ أم إجماع أهل المدينة؟ أم إجماع المجتهدين في كل عصر؟ أم كل هذه الأنواع معتبرة؟ مسألة مختلف فيها بين العلماء، فتجد فريقًا من العلماء يشدد على أن الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة فقط، والبعض يقول الإجماع هو إجماع كل المؤمنين، إجماع كل المسلمين ليس محصورًا في العلماء، وتجد من يقول إن الإجماع هو إجماع القرون الثلاثة الأولى التي بدأت فيها عملية تبور العلوم وتدوينها.

لماذا لا نقول الصحابة فقط وندخل معهم التابعين وتابعي التابعين؛ لأن بعض الأحكام لم نجد فيها نصوصًا صريحة للصحابة، فاجتهاد العلماء التابعين لهم وتابعي التابعين معتبرٌ في هذا، كذلك مسألة جمع السنة وتدوينها بالطريقة المعهودة والمستقرة الآن في كتب أهل العلم لم تحصل في زمن الصحابة؛ لذلك ينظرون إلى القرون التي جاءت بعدها ووصلوا إلى آخر القرن الثالث الهجري.

بعض أهل العلم كالمالكية يقولون بأن الإجماع المعتبر هو إجماع أهل المدينة الذين عاصروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الدين عنهم هكذا بالإسناد، وهذا هو مستقَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أكثر العلماء يقولون إن الإجماع المعتبر هو إجماع علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل عصر من العصور، وهذا نستطيع أن نشبهه بالمجامع الفقهية التي تتوافق مع نفسها. يعني عندما أرى مبحثًا ومسألة جديدة. المجامع الفقهية المعروفة اتفقت فيها على رأي أستطيع أن أطمئن هنا بالقول أن هذه المسألة أجمع عليها علماء العصر، لكن في الحقيقة الذين رفضوا الإجماع بسبب عدم إمكان التعرف على كل علماء العصر، ومن ثَم كل أقوال العلماء في هذا العصر لهم وجه من هذا الجانب، لكن يمكننا تجاوز هذا بأن العلماء تكون لهم روابط، وتكون لهم تجمعات، وتكون لهم محافل نستطيع من خلالها أن نضبط الإجماع في الحقيقة، ونقول هذا الإجماع منعقد أم لا.

الخلاصة: أن اعتبار نوع الإجماع أمر مختلف فيه وهو من المتغيرات.

كذلك حكم منكر الاجماع اختلف فيه العلماء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع هل يكفر؟ على قولين؛ والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه". ليس العاصي لكن الجاحد الذي يرد النص والذي يرد الإجماع الذي يقول إن الصلوات ليست خمسة. هذا إجماع قطعي لا يختلف فيه، والذي ينكر صيام شهر رمضان هذا إجماع قطعي لا يمكن أن يختلف فيه؛ فمنكر ذلك وجاحد ذلك ورادُّ ذلك كافر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. قال: "لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به. وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع. وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره".

إذاً هنا اختلف العلماء في مسألة كفر منكر وجاحد الإجماع على اقوال أقواها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذي ينكر الإجماع القطعي المنصوص عليه يكفر أما الإجماع الظني أو الإجماع الذي لا يظهر معه دليل قطعي كذلك فهذا لا يكفر.

الأمر الثاني: من الأدلة المختلف عليها عند الأصوليين الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع وشرع من قبلنا .. إلى آخر هذه الأدلة اختلف فيها العلماء. فإذا اختلف العلماء نحن كذلك نختلف ونقبل هذا الاختلاف. البعض يستدل بها والبعض يأبى ذلك؛ فهذا قوله معتبر وهذا قوله معتبر.

الأمر الأخير في منظومة المتغيرات في منهج تقديم بعض هذه الأدلة على بعض. فالإمام أحمد يقدم الحديث المرسل والحديث الضعيف على العمل بالقياس. فهذا أمر احتج به أحمد رحمه الله تعالى وأخذ به، لكن غيره قد يخالفه في ذلك، كما فعل مالك رضي الله عنه يعتبر إجماع أهل المدينة وفتوى الصحابي، ويقدمها على بعض أخبار الآحاد، في حين لا يقدم أبو حنيفة والشافعي على الاستدلال بفتوى الصحابي إلا حيث لا توجد سُنَّة؛ وهكذا.

فهذه أمور يختلف فيها العلماء. ومن ثَم ينبغي علينا أن نقبلها بصدر رحب دون أن ينكر بعضنا على بعض، أو أن ينازع بعضنا بعضًا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

والله من وراء القصد.

تعليقات

الكلمات الدلالية