ينشر أحد الحسابات في تويتر صور المواليد المشوّهين في الفلوجة، حيث تبلغ نسبة التشوّه الخلقيّ 14.7% من المواليد، أي 11 ضعف المعدّل العالمي.
في هجوم 2004، أحرقت طائرات الاحتلال المقاومة العراقية -ومعها السكان- بالفسفور الأبيض والنابالم. في العام السابق، أهدت الولايات المتحدة العراقيين الذين ستحررهم 69 طنّاً من اليورانيوم المنضّب، توزّع جزء كبير منها في محيط الفلوجة. يُصنّف اليورنيوم المنضّب كأحد أسلحة الدمار الشامل، التي غزت أمريكا العراق بذريعتها. أما النابالم، فهو ثمرة اجتماع العقول العلمية في جامعة هارفرد في أثناء الحرب العالمية الثانية: خرج من المختبرات الأنيقة إلى طائرات سلاح الجوّ الأمريكي التي ألقت 2000 طنّ منه على طوكيو فأحرقتها عن بكرة أبيها، وقتلت أكثر من 200 ألف إنسان في ليلة واحدة، تاركةً – عن عمد – قصر الإمبراطور، كي يشهد الجحيم الأمريكي الموعود.
لطالما اعترف الأمريكيون بالذنب وتفنّنوا في التعبير عن وجع الضمير، ولطالما عادوا. أحرقوا فييتنام بالنابالم، وندموا مرّة أخرى، ثمّ عادوا لاستعماله في بلادنا.
في كلّ مدينة ومنطقة قاومت الأمريكان، جرى استعمال القنابل المحرّمة (عنقوديّة، انشطارية، حارقة، ...): في مطار بغداد، ثمّ في المواجهات مع جيش المهدي، ثمّ تسعّرت السماء والأرض في الموصل والرقة في المواجهات مع تنظيم الدولة. التقارير وروايات شهود العيان التي نشرت عن "تحرير" الموصل وقراها -ومنها تقرير منظّمة العفو الدولي - تؤكّد استعمال الفسفور الأبيض، وتصف ما يصبح بالكلمات أقلّ هولاً: أشجار متفحّمة، سيارات وبيوت منصهرة، جثث جثث جثث تنزّ زيتها وتحترق، ثمّ قبور جماعية.
سمعت في الأيام الماضية مراراً من يقول لي أو لغيري أنّ نقد الحداثة هذا حيلة الهويّاتيين، الذين يحرسون حنينهم للماضي المتخيّل بالتقاط عيوب الغرب وتضخيمها. والحقيقة أنّني لا أفهم أيّ تضخيم يعنون. أولاً، لأنّ الأمر لا يحتاج إلى تضخيم، فنحن نعيش جحيم الحداثة كلّ يوم، وشرايين بلادنا المفتوحة شاهدة على غزارة هذا النزف. ومن لا يرى الصلة الصميمة بين الاستبداد والاستعمار لا يرى. ما لا يفهمه المنزعجون من نقد الحداثة أنّ واقع الجحيم هذه جزء أصيل من الحداثة، وهو الشرط الضروريّ -مادياً واقتصادياً وثقافياً – لصورة جنّتها الأرضية التي تعيشها شعوب العالم النظيف. وثانياً، لأنني أشعر بأنّ النسيان – وليس انتفاخ الذات النرجسية – هو ما يغزونا. تفتح التلفاز فيوزّع عليك المتحدّثون أقراص النسيان والنوم الجماعي؛ تفتح الكتب فتحدّثك عن أزمة العقل المسلم والقابلية للاستعمار!
رحم الله مالك بن نبي. ألم تخضع 90% من أمم هذا العالم للاستعمار الأوروبي؟ أكانت كلّ هذه أمم هرمة مهزومة من الداخل؟ ألم تقاتل المستعمر بأشرس ما تملكه من رجال وبنادق صدئة؟ ولكن، ماذا تفعل البنادق في وجه المدافع الآلية؟ وأليس الاستعمار مع الوقت -بعمله على تفكيك عوامل مقاومته – هو من يرسّخ القابلية للاستعمار، حتّى نظنّ في النهاية أنّ النتيجة هي السبب!؟ أليس فرط التنقيب في دهاليز الذات عن عطب مكنون هو تحديداً ما يرسّخ القابلية للاستعمار؟ هل هناك أزمة للعقل أعظم من أن يعيش مغترباً في واقع لا يملك شروط إنتاجه؟
الجميع ينتقد الرأسمالية، والجميع يعيشها. لا يكاد يوجد في العالم رأسماليّ واحد يتبنّى عمل السيستم! هذا مثال على نوع النقد الممكن في عالم اليوم، نقد يشبه الشكوى والتنفيس الضروريّ لاحتمال واقعه.
أسهم النقد الثقافيّ للحداثة في تحويل النقد إلى لعبة ذكاء. رحم الله المسيري. أصبحت ترى الحداثة في كلّ مكان إلى درجة يستحيل معها مقاومة شرّها. لا ليس هذا هو النقد الذي يعنينا ..
نحن أمام آلة قتل ذكيّة لا يحكمها ضمير أخلاقيّ (اللهم إلا قليلاً ممن ينهون عن الفساد في الأرض). بطشها المباشر يفري اللحم والعظم، ولكنّها ليست جزّاراً يلطخ يديه وثوبه بالدماء، بل مصنع نظيف يعمل بالطاقة الشمسية.
خذ هذا الذي يحدث في السويد مثالاً. دائرة الخدمات الاجتماعية (السوسيال) تريد حماية الأطفال من عائلتهم الهمجية. فقد أثبتت الدراسات "العلمية" أنّ العنف اللفظيّ أو الجسديّ مضرّ بالصحة النفسية للطفل، ولكنّها – سبحان الله – لم تثبت أنّ عزله عن عائلته أو تنشئته في عائلة أخرى مضرّ. وكيف يكون ذلك؟ وهل هناك أحنّ في الدنيا على الأطفال من مؤسسات الدولة؟
لن يتكرّر الخبر في العناوين الرئيسية. ولن تجد تقريراً استقصائياً يشفي غليلك. تقرأ في بعض وسائل إعلامنا دفاع المتحدّثين باسم السوسيال عن سلامة نهجهم، وحرصهم على الدقّة، وعدم التمييز على أساس الدين. ولأنّ الإعلام محايد ونزيه وموضوعي، فإنّه لن يجد ممثّلاً رسمياً للضحايا (وستبقى أخبارهم مذيّلة بعبارة "لم يتسنّى لنا التأكد من صحة المعلومة"). الضحية أبكم، ومن يدافع عنه متهم بالتهييج والتهويل إن استعمل لغة تحمل فائض شعوره بالقهر.
هل تعلمون أنّ سويسرا كانت تقنّن بيع الأطفال الأيتام في مزادات علنية للعمل في المصانع والمزارع، وأنّ أشباه هذه الظاهرة لم تختف حتى منتصف الثمانينيات، مع كلّ ما كان يكتنفها من بشاعات يُمكن قراءتها تفصيلاً في تقرير نشرته البي بي سي. لا أقول هذا لأقنعكم أننا كنّا أفضل (هذا مفروغ منه بالمناسبة)، ولكن، للتفكير في سرعة هذه الحضارة في تصدير أمراضها الداخلية إلى الخارج، ثمّ استثمارها في الهيمنة. هذه الاستراتيجية التي تتكرّر على الدوام: يبيدون اليهود في معسكرات الاعتقال، ثمّ يتهمونك أنت، الذي استقبلت اليهود في المغرب وبلاد العثمانيين بعد مجازر محاكم التفتيش (التي كانت تغرز الدبابيس في العيون والأعضاء التناسلية)، أنت الذي عاش اليهود إلى جوارك طيلة 1300 سنة، يتهمون بأنّك تعادي السامية؛ يتأثّمون من حجم الظلم الذي تتعرّض له النساء في بلادهم، فتصبح أنت أيها العربي المسلم شماعة التطهير، وتكال لك كلّ أوصاف الذكورية والبطريركية. كل يوم في الولايات المتحدة تقتل ثلاثة نساء إما على يد زوجها أو شريكها السابق، وفي كلّ عام هناك 10 ملايين امرأة تتعرّض للعنف من شريكها.
أي، يا عزيزي، نسبة جرائم "اللا شرف" في الولايات المتحدة إلى عدد السكان أكبر من نظيرتها في الأردن بمرة ونصف، وفرنسا ليست أحسن شأناً من الأردن إلا بنسبة 10% (تذكّروا أنّ قانون اللاشرف هذا هو صنعة فرنسيّة جرى تعميمها في الدساتير العثمانية والعربية في زمن الهزيمة).
وأعوذ بالله أن تظنّ بأنّ مثل هذا الخطاب – هنا وأينما ورد- يُقال لصرف النظر عن هذه المظالم، أو ينفي الحاجة للإصلاح الفكري أو التربوي أو خلافه، فليس هذا من الإسلام ولا الإنصاف في شيء. بل الأمر أن نعدل ونصلح ونشهد بالحقّ ولو على أنفسنا. ولكنّ الأساس النفسيّ المشحون بخطاب عطب الذات وتفوّق الغالب لن يساعدنا في شيء، بل سيأتي بحلول الآخر التغريبية ويشحن ردّة فعلها المحافظة، ولن يحلّ المشكلة في النهاية، ولماذا يحلّها وهو يحتاج بقاءها وتضخيمها باستمرار لتأكيد صورته عن ذاته المتفوّقة حضارياً.
قصة ظريفة يرويها جوناثان براون مفيدة لإنعاش الذاكرة ولإبراز استراتيجية "تصدير الأمراض" هذه: في عام 1947، حكمت المحكمة الشرعية في نيجيريا على رجل بالقتل قصاصاً، لأنّه قتل عشيق زوجته. (في صحيح مسلم من حديث سعد بن عبادة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أؤمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم"). أما في صحيح الحداثة الاستعمارية للإنجليز حينها، فقد بدا هذا حكماً وحشياً: هذه جريمة عاطفية! وهكذا قامت المحكمة البريطانية المستعمرة آنذاك بنقض حكم المحكمة الشرعية. تغيّرت نظرة الأوروبيين، فتغيّر تعريف "الوحشية"، أما المتهم بأنه "وحشيّ" فلم يتغيّر. هو أنت دوماً أيها المسلم!
الكلام عندي كثير لأنّ الكذب كثير، ولأنّ المخدوعين بخطاب الكذب كثيرون. والمخدوع ليس دوماً مقتنعاً بالخدعة. إنه يوافقك في مفاسد هذه الحضارة الحديثة ووحشيّتها، ولكنّ جهازه العصبيّ يبقى بارداً : فكرة بلا شعور، واعتقاد ولكن على طريقة الكرامية (الذين ينسب إليهم القول بأنّ الإيمان إقرار باللسان فقط، لا تصديق بالقلب ولا عمل بالجوارح). يوافقك ثمّ يأتي بالاستدراكات: مرّة عن عدم تعليق بؤسنا على شماعة غيرنا، ومرّة عن كثرة أخطاء العاملين من هذه الأمّة، ومرّة عن فظاعة البديل الصيني والروسي، وكأنّ هذه البدائل لا تنهض على نفس أرضيّة مشاريع الفري والفرم (مع تفاوت في تبنّي صورة الجزار ومصنع اللحم)، بلا غاية أخلاقيّة هادية، ولا رؤية ربّانية للوجود والإنسان، أو وكأنّنا ينبغي أن نبقى غنماً موزّعين على الجزارين ومصانع اللحم، وليس لنا إلا تغيير موقع الذبح.
يُهوّن الأمريكيون الهول بتغيير اسم الجريمة، يوزّعون على السجانين أدلّة "الاستجواب المعزّز": كم مرّة يحقّ لك أن توهم المستجوب بالغرق، وكم مرّة يُسمح لك بصعقه بالكهرباء، أما عند غيرهم فاسمه "التعذيب". يقتل الأمريكيون بقفاز أبيض: تدخل العولمة إلى الهند مدعومة بتسهيلات قانونية، فتسيطر على صناعة البذور وتحتكرها. خلال 13 سنة، ينتحر 200 ألف مزارع هندي نتيجة الإفلاس وتحت طائلة خسارة أراضيهم المرهونة، أما الروس فيقتلونهم فعلاً. يحاصر الأمريكيون العراق، فيموت نصف مليون طفل بنقص الغذاء والدواء، يندمون ويتعاطفون مع الأبرياء. يعودون ويتواطؤون على بقاء الأسد وعلى تمدّد الإيرانيين في المنطقة، ولهم من الجرأة الوقحة ما يسمح لهم بالتعاطف مع الضحايا، ثمّ ابتزاز من أوعزوا إليهم بالقيام بالمهمة القذرة.
ومع ذلك، واسمح لي أخي القارئ وأختي القارئة أن أذكّرك بهذا. ليس لدى الأمريكي أو "الإسرائيلي" وازع يمنعه من خلع القفاز الأبيض وغرز النصل في الصدر. إنه يعتقد حتى الآن أنّ هذا التنكّر استراتيجية أكفأ وأقلّ تكلفة. إنّه يعدّ الرؤوس النووية، ولن يرى بأساً يوماً ما بإنزالها على رأسك إن رفعته عالياً.
يقولون إن أخطر حيل الشيطان أن يقنعك بعدم وجوده، وهكذا نعتقد أنّ زمن "النووي" انتهى، وأنّ العالم صار أكثر أخلاقية ولا يمكن أن يقبل بمثل هذه الوحشيات. استيقظ يا أخي، الإبادة ليست "حدثاً" بل "بنية". إنها نسيج الرؤية الحديثة – منزوعة الأخلاق – للوجود بشراً وحجراً.
نعم، يقولون، حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض، وهذا صحيح، ولكنّ كلمات دياب طلال (الذي خطف السوسيال - أو "سحب" بالتعبير القانوني- أطفاله الخمسة، وآخرهم من المستشفى فور ولادته) فتذكّرنا بمقدار تشابه هذه الشرور: "النظام [أي نظام الأسد] كان يعذّبنا جسدياً، والسوسيال يعذّبنا نفسياً".
ماذا؟ هل تشعر بالغضب والقهر؟ هذا جيد. هل تشعر بالعجز أيضاً؟ ها قد بدأت تفكّر في المشكلة الصحيحة. الآن، اذكر ربّك "القاهر فوق عباده"، وأجبني من يدبّر الأمر حقاً؟ أليس هو الله. به لا تيأس، واستعن به ولا تعجز. واصبر وصابر ورابط واتقِ الله .. إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين!
الكاتب: أستاذ أسامة غاوجي
اكتب مراجعة عامة