img
img

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المحاضرة الثانية)

img
منصة كلنا دعاة

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المحاضرة الثانية)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ المتصفِ بصفاتِ الكمالِ المنادى بأسمائه الحسنى سبحانَهُ ذي الجلال وأصلي وأسلمُ على الرسولِ والصحبِ والآل ومن سار على نهجهم واقتفى أثَرَهُم إلى يومٍ يؤول إليه المآل.

أما بعد:

اصطفى اللهُ رسولَه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكونَ خاتمَ رسُلِهِ ومُبلِّغَ دعوتِهِ للناسِ كافة، قال الله عز وجل: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(.

تكلمنا في المحاضرةِ السابقةِ عن الفتنِ وتحذيرِ النبيِ صلى الله عليه وآله وسلمَ منها، وتصدي العلماءِ للفتن، وتحصينِ النفسِ والناسِ من شرورها، وذلك بالحرصِ على العلمِ والعبادةِ معاً، وتناولنا تعريفَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر في اللغةِ والاصطلاح، ذاكرين أهميتَهُمَا في الدعوةِ إلى اللهِ عزوجل وحفظِ الأمةِ الإسلامية من الفسادِ والضَّياع، واهتمامِ العلماءِ بهما وتأليفِ المصنفاتِ فيهما بدءً ا من القرن الثالث وحتى يومنا هذا، وتكلمنا عن تعظيمِ المولى سبحانَه وتعالى وعن تعظيمِ أمرِه ونهيه، ثم ذكرنا أهميةَ الإصلاحِ في المجتمع، وأنه لا يُكتفى بالصلاحِ بلا إصلاح، وذكرنا أثرَ حذيفةَ بأن الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر سهمانِ من سهامِ الإسلام، وأنهما من أسبابِ الفوزِ في الآخرةِ بأعظمِ فوز، وذكرنا خطأَ العلماءِ باهتمامهم بالأمرِ بالمعروفِ وتركهِمُ النهيَ عن المنكر، وتناولنا دورَ الإعلامِ الخبيثِ والدعواتِ الباطنةِ الباطلة، ورغبات الغربِ في إفسادِ المجتمع.

ثم ذكرنا أن الإنسانَ لا يُعْذَرُ إن اجتنبَ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ مخافةَ اللوم ، وخشيةَ الناس قال تعالى: )وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ(.

وذكرنا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضلِ الجهادِ وهو كلمةُ الحقِّ عند سلطانٍ جائر، فبَينَّا عِظَمَ إنكارِ المنكرِ ولو على الحاكم.

وبعد ذلك تطرقنا لبعضٍ من الضوابطِ كصفاتِ الآمرِ بالمعروفِ والناهي عن المنكر، وعلى من يجب، وتحدثنا عن مراتبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر.

وختمنا بكلامِ الإمامِ الشافعي وابن القيم رحمهما الله حول سورةِ العصر وأهميةِ العملِ الصالح والتواصي بالحقِ والتواصي بالصبر، وأنه نهايةُ الْكَمَال؛ فَإِن الْكَمَالَ أن يكونَ الشَّخْصُ كَامِلاً فِي نَفسه مكمِّلاً لغيره وكمالُه بإصلاح قوَّتَيه العِلميَّةِ والعَمَليةِ، فصلاحُ الْقُوَّةِ العلميةِ بالإيمان، وَصَلَاح الْقُوَّة العملية بِعَمَل الصَّالِحَات وتكميله غَيرِه بتعليمه إياه وَصَبرِه عَلَيْهِ وتوصيته بِالصبرِ على الْعلمِ وَالْعَمَل.

وقد روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوسُ في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا بدٌّ من مجالِسِنا نتحدثُ فيها. قال: فإذا أبَيْتم إلا المجلسَ فأعطوا الطريقَ حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر».

نأتي الآن على محورِ كلامِنا في هذه المحاضرة حول ضوابطِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر.

فما من أمرٍ إلا وله ضوابط ... فالقواعدُ والضوابطُ هي التي تضبطُ الأمر من الإفراط أو التفريط.

والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ من أجلِّ خصائصِ الأمَّةِ الحيّة، ومن أهم مقوماتِ بقائها.

وسنتناول بعضَ القواعدِ والأسسِ اللازمةِ للقيامِ بهذا الأمر على الوجه الصحيح، وسنلقي الضوءَ على اللَّغَطِ الحاصِلِ في فَهْمِ بعضِ هذه القواعد ساعين إلى تصحيحِ تلك المفاهيمِ بإذن الله تعالى.. وقد يقول البعض: هل يَحسُنُ أن نتحدثَ عن القواعدِ والضوابطِ مع قلةِ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟! والجواب: الأمةُ تغطُّ في غيبوبةٍ عن هذا الأمر إلا من رحم ربي، وهذا لا يعني أن نَغْفَلَ عن هذه القواعدِ والضوابطِ الشرعية، التي يتحققُ بها الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر، ولعل ما يشجعُ على الكلام حول القواعد عودةُ الكثير من الشبابِ المسلمِ إلى دينهم الحق وتوبتُهم لتصبحَ الأمةُ الإسلاميةِ على أبوابِ فجرٍ جديدٍ بإذن الله تبارك وتعالى، فما تعيشُه الأمةُ من واقعٍ مظلمٍ ومرير، إنما هو ظلمةُ ما قبلَ بزوغِ الفجر، وإنما هو مخاضٌ تعقُبه ولادةُ جيلٍ لا تأخُذُه في الله لومةَ لائم، بإذن الله تبارك وتعالى.

من هنا كان واجِبُنا تُجاه جيلِ النصرِ والتمكينِ أن نمهِّدَ مسيرةَ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكرِ أمامَه، ونجعلُهُ واضحَ المعالمِ في الطريق.حتى يُكتب له الأجرُ كاملاً بإذن الله، وحتى لا يخطئ أو يَضِّلَ في هذا الأمر، فيكونُ منكرٌ آخرَ وانحرافٌ جديدٌ يحتاج إلى تصحيح.وتحتاجُ هذه القواعدُ والضوابطُ إلى أكثرَ من رأيٍ وأكثرَ من اجتهاد، لأنها مسائلُ تتبعُ في الغالبِ المصالحَ التي يتحققُ بها الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ.والمصالح تتجدد بحسب العقولِ، الأزمانِ، والأحوالِ، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهدَ ونفكرَ، لنصل بإذن الله تعالى إلى تحقيق المصالح، ودرء المفاسد.

 

الضابط الأول:

فأولُ ما نضعُهُ من هذه الضوابطِ والقواعدِ:

أن يتصفَ الآمرُ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ بصفاتِ الداعيةِ إلى الله سبحانه وتعالى.

فليسَ المقصودُ من الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر التشفي أو الثأرُ أو الانتقامُ من هذا الواقعِ المر، أو من هؤلاء العصاةِ وإن جاروا وبَغَوْا على أهلِ الحقِ والخير، وإنما هو جُزءٌ من الدعوةِ إلى الله، فالصبرُ فيه صبرٌ على الدعوةِ إلى الله.

فيجبُ أن يكونَ الآمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر : حَسَنَ الخُلُقِ، هيناً ليناً، سَمْحاً بشوشاَ، يبشرُ ولا ينفِّر، ورعاً تقياً، حليماً، صبوراً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

والحكمةُ في الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ واجبةٌ؛ لأن الدعوة إلى الله لا بدَ أن تكونَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، والمجادلةِ بالتي هي أحسن. فإن أردت أن تأمرَ بالمعروف فليكن بالمعروف، وإن أردتَ أن تَنهى عن المنكرِ فليكن بالمعروف.

ومن صفات الداعية الصبرُ وتحملُ الأذى:يُعتَبرُ الصبرُ على الأذى من الدعائمِ التي يجبُ أن يستندَ عليها من يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، وطالما كان هناك أمرٌ بمعروفٍ ونهيٌ عن منكر، فالغالب أن يصاحبَهُما أذى من الناس، ويَظْهرُ هذا جلِيّاً في وصيةِ لقمانَ لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ .ولذا أوصى الله تبارك وتعالى الرسلَ بالصبرِ، فقال سبحانَهُ مخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .وقال أيضاً: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً .

       ومن صفات الداعية أيضا:


الرفق وحسن الخلق:

يُعتبرُ الرفق وحُسْنُ الخُلُقِ من صفاتِ من يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، فالعنفُ والغضبُ المفرطُ في الدعوةِ قد يؤديان إلى مفسدةٍ عظيمةٍ لا يُحمَدُ عقباها، وهذا الخُلُقُ المباركُ من الرفقِ ولينِ الجانب، هو الذي تربى عليه الأنبياءُ والمرسلون، وساروا عليه في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر.

 قال تعالى عند الحديث عن موسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.

 وقال الله تعالى أيضاً مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطباً كل من يدعو إلى الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

 وقال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.

 روى مسلم من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة! إن الله رفيقٌ يحبُ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه».

 وقال سيد قطب رحمه الله: «إن الرفقَ في الموعظةِ كثيراً ما يهدي القلوبَ الشاردة، ويؤلفُ القلوبَ النافرة، ويأتي بخيرٍ من الزجرِ والتأنيبِ والتوبيخ».

قال سفيان الثوري رحمه الله: «لا يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ إلا من كان فيه ثلاثُ خصال: رفيقٌ بما يأمرْ، رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمرْ، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالم بما ينهى».

وهذا معنى كلامِ السلف رحمهم الله، تحري الرفقِ مع العلمِ والحِلْمِ والبصيرة، لا يأمرُ ولا ينهى إلا عن علمٍ، لا عن جهلٍ، ويكونُ مع ذلكَ رفيقاً عاملا بما يدعو إليه، تاركاً ما ينهى عنه، حتى يُقتدى به.

ومن هنا كان الضابط الثاني وهو العلم.



الضابط الثاني: العلم:

طلبُ العلمِ له شأنٌ عظيم، ومن الجهادِ في سبيل الله، ومن أسباب النجاة ومن الدلائل على الخير، ويكون بحضورِ حلقات العلم، ويكونُ بمراجعةِ الكتبِ المفيدة، إذا كان ممن يفهمُها، ويكونُ بسماعِ الخُطَبِ والمواعظ، ويكون بسؤالِ أهلِ العلم.. كلُّ ذلك من الطرقِ المفيدة، ويكون أيضا بحِفْظِ القرآنِ الكريم، وهو الأصلُ في العلم، فالقرآنُ رأسُ كلِّ علم، وهو الأساسُ العظيم، وهو حبل الله المتين، وهو أعظم كتاب وأشرف كتاب، وهو أعظم قائد إلى الخير، وأعظم ناهٍ عن الشر. ولذلك لا بد لمن يقومُ بالأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكونَ على علمٍ بموقعِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر، وأن يكون على علمٍ بحالِ من يأمُرُه وينهاه، حتى يقتصرَ في تصرفه على حدودِ الشرعِ الحنيف، لأنه إذا كان جاهلاً بهذه الأمور، فإنه سوف يُفسدُ أكثرَ مما يُصلح، ولذا قال شيخ الاسلام ابن تيمية:

 " لا يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ الا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فما ينهى عنه. فالعلم واجبٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والعلم المطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقفُ على نوع المأمور به، والمَنْهِيِّ عنه، فهناك أمورٌ من المعروفِ معلومةٌ من الدينِ بالضرورة، لا تحتاجُ إلى مزيدٍ من العلمِ حتى يجادلَ الإنسانُ ويُحاجَّ بها.

وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله: “فإن كان من الواجبات الظاهرةِ أو المحرماتِ المشهورة، كالصلاةِ والصيامِ والزنا والخمرِ ونحوِها فكلُّ المسلمين علماءُ بها، وإن كان من دقائقِ الأفعالِ والأقوالِ ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوامِّ مدخلٌ فيه ولا لهم إنكارُه بل ذلك للعلماء".

على سبيل المثال إذا رأيتَ تارك الصلاة، هل يحتاج أمرك له، بأداء الصلاة إلى كثير علم؟ لا، بل يكفي للأمر في هذه الحال أن يعرِفَ أن الصلاةَ من أركانِ الإسلام، ولا يقوم الإسلامُ إلا بها.

ولا بد للآمرِ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ من أن يعلمَ بالشريعةِ بأن هذا معروفٌ وهذا منكر؛ لئلا يأمرَ بمنكرٍ أو ينهى عن معروف، فبعضُ العوام عنده غيرة يحبُّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، ولكن قد يأمر أحياناً بما ليس بمعروفٍ بناءً على أنه هو يرى أنه معروفٌ وليس كذلك، وهذا خطأٌ عظيم، كذلك أيضاً بعض العامة عنده غيرة شديدة يرى أن هذا الشيء منكرٌ فينهى عنه مع أنه ليس بمنكر، فمن الناس من يكسر التلفازَ الذي فيه من القنوات المفيدةِ النافعةِ وما يُستفاد منهُ في طلبِ العلم، لأن ذوقَهُ يرى أن التلفاز حرامٌ منكر، ويقول": من رأى منكم منكراً فليغيره بيده"و هذا غلط عظيم، أولاًليست مشاهدةُ التلفازِ منكراً خالصاً، فالتلفاز آلةٌ يودَعُ فيه الخير ويودَعُ فيه الشر، فإن شاهدتَ شراً فهو شر، وإن شاهدتَ خيراً فهو خير، إذاً لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أن يكون عنده علمٌ بالشرع؛ لئلا يأمرَ بمنكر أو ينهى عن معروف، كذلك لا بد أن تعلم أن هذا الفاعل قد أتى منكراً أو ترك واجباً، مثال ذلكرأيت مع إنسان امرأة فظننت أنها أجنبية منه فجعلت تنهاه، هذا غير صحيح، قد تكونُ هذه المرأةُ من محارمه أو زوجةً له، لا تنكرْ حتى تعلمَ أن هذا الذي تريدُ أن تنهاه قد وقع فعلاً في المنكرقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا بد من العلمِ والرفق والصبر، فالعلمُ قبل الأمرِ والنهي، والرفقُ معه، والصبرُ بعده».

 

 

الضابط الثالث: اتباعُ فِقهِ الأولويات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدِّم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكرَ الأصغر منهوحياةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كلُّها شاهدةٌ على ذلك، حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس يَزنونَ، ويئِدونَ البنات، ويشربونَ الخمر، ويقطعونَ الأرحام، ويأكلون الميتة، ويُشركونَ بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.فبماذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعوته وإنكاره على المشركين؟ لقد بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الشرك أولاً. وهو غاية ما أُرسل به الرسل صلوات ربي وسلامهم عليه.فإذاً نبدأُ بإنكارِ الشركِ، لأن الشركَ هو المنكرُ الأكبر، وهو الذنب الأعظم: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء 48].وقال سبحانه في آية أخرى، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء116].وكلُ دعوةٍ إصلاحيةٍ أخلاقيةٍ لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوةٌ مخفِقَةٌ لا تنجحُ بأيِّ حالٍ من الأحوال.إذاً نقول: إن البدءَ بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبدَ اللهَ تبارك وتعالى على بصيرةٍ وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلقُ الإنسان.فإذا أردتَ أن تأمرَ بالمعروفِ أو تنهى عن المنكر، فرتبْ هذه الحقوق، ورتب أنواعَ المعروف، وكذلك رتب أنواعَ المنكر، وابدأ بالأهمِّ ثم المهم.ولا يمنع ذلك أن تكونَ بدايةُ دعوتكَ بالمحبّةِ والحكمةِ والموعظةِ الحسنة، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يجب أن تكونَ الأولويةُ لتغييرِ المنكرِ الأكبرِ، حتى إذا بقيَت عندهُ كبائرُ فهي أهونُ من المنكرِ الأكبرِ، وهو الشرك. ثم السعيُ لتغيير الكبائر الأخرى، ولكن بعد الاطمئنان إلى أن المنكرَ الأكبرَ قد قُضيَ عليه، وأنه لا وجود لهوحتى في المجتمعات التي ساد فيها توحيدُ اللهِ عزوجل، ونُبذَ فيها الشرك، فإننا لا نترك الكلام حول التوحيدِ ونبذِ الشرك، بل يجب أن نذكر أنفسنا دائماً ونذكِّر الناس بأهمية التوحيد والثبات عليه، قال تعالى: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(، وأعظم عبادة هي التوحيد.وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء 136] وهنا تلاحظُ أهميةُ الثباتِ على الإيمان، والاستمرارِ عليه فهو الأساس، وبعد ذلك، تقومُ جميعُ الطاعاتِ، ولو أننا عرفنا حقيقةَ التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبدا وغيرها من الكبائر فضلاً عن الصغائر والمنكرات.وبعد إنكارِ المنكرِ الأكبرِ وهو الشرك نأتي لإنكارِ المنكرات وذلك حسب تأثيرِها على المجتمع.فنبدأ أولاً بإنكارِ المنكراتِ الظاهرةِ، أو بعبارة أخرى: أن نهتمَ بإنكارِ المنكراتِ الظاهرةِ أكثرَ من اهتمامنا بإنكارِ المنكراتِ الخفيةِ والمستترة.وهذه القاعدة تُحققٌ المصالحَ جميعاً، حيثُ تُحققُ القضاءَ علىَ المنكرِ الظاهر، كما تُحققُ القضاءَ على المنكرِ الخفيِ، ولكنَ بعضَ الدعاةِ إلى اللهِ والآمرينَ بالمعروفِ والناهينِ عن المنكرِ لا يفطنونَ إلى ذلكَ، ولو نزلنا إلى أرضِ الواقعِ، وتأملنا فيما حولنا في المجتمع، واتخذنا أمثلةً على ذلكَ لوجدنا أن هذا الأمرَ واضحٌ جلي.إن الواجبَ في الحقيقةِ هو أن نبدأَ بالقضاءِ على المنكرِ الظاهرِ، فالمنكرُ الظاهرُ شيوعه ُوانتشارهُ يوجبُ غضبَ الله تباركَ وتعالى، وأما المنكرُ المستترُ فإنهُ مستترٌ بذاتهِ وما يزالُ دونَ درجةِ الشيوع، وإنما يظهرُ ويشيعُ المنكرُ المستترُ إذا تُرِكت المنكراتُ الظاهرةُ دونما إنكارٍ حتى تصبح معروفاً، فإذا أصبحتِ المنكراتُ الظاهرة ُمعروفاً تجرأ الناسُ على التبجحِ بالمعاصي فلم يعودوا يستتر بأي منكر بل أصبحوا يجاهرونَ بالمعاصي ما ظهرَ منها وما بطن.والله المستعان..

 

الضابط الرابع: لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر

إنَ إنكارَ المنكرِ إذا أدى إلى منكرٍ أكبرَ، أو مفسدةٍ أعظمَ، فإنه لا يجوز إنكاره.فليس المقصدَ مجردُ الإنكار، أو التشفي بالإنكار، أو الانتقامُ من صاحبِ المنكر، بل الغايةُ هو أن يطاعَ اللهُ تباركَ وتعالىَ، فإذا كنت تسعى إلى أن يُطاعَ اللهُ وجئتَ بما يؤدي إلى معصيةٍ أكبرَ فلا تفعلْ ذلك، وقد بينَ الله ذلكَ في القرآنِ الكريمِ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال تعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام 108].فنهى اللهُ تباركَ وتعالى عن ذلك؛ لأن ذلكَ يؤدي إلى أن يتجرأَ المشركونَ فيسبوا اللهَ عز وجل.فلو ذهبتَ إلى إنسانٍ تعلمُ من حالهِ أنك لو أمرتهُ بمعروفٍ ما لأعلنَ الكفرَ وسبَ اللهَ ورسولَهُ فلا تأمرهُ. فهو فاحشٌ بذيئٌ لا يُتقى شرهُ، وشرُ الناسِ من يتقيهِ الناسُ مخافةَ شره.فمن المصائبِ أن يقعَ هذا في مجتمعنا، وأن يوجدَ من يسبُ الدينَ .. في ظل هذا المجتمع الذي ترتفعُ فيه المآذنُ في كلِ حينٍ وتملأُ الأجواءَ بالتكبيرِ والشهادةِ للهِ تعالى بالتوحيد، ولمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بالرسالة.فلا بدَ إذاً أن ننتبهَ إلى هذا الأمرِ، فلا ننكرُ المنكرَ إذا كنا نتوقعُ أن يقعَ منكرٌ أكبرَ منه.وأيضاً لا ننكرُ المنكرَ بوسيلةٍ غيرِ مشروعةٍ، فالمنكرُ منكر، فلا ينكرُ المنكرُ بمنكرٍ آخر! لأنهما منكرانِ، فما هذا بأولى من ذاك، وإنما ينكرُ المنكرُ بالأمرِ المشروعِ وبالمعروفِ وبما أمرَ اللهُ تباركَ وتعالى وبما شرّع.ومن المهم ألا يزولَ المنكرُ إلى أنكرَ منه، لو أن إنساناً وقع في منكر ونهيتَه عنه، لكنك تعلمُ أنك بنهيك إياه سيتحولُ إلى ما هو أعظم، فلا تنكر؛ لأن درءَ أعلى المفسدتين بأدناهما أمرٌ واجب، خذ من المفسدتين أقلَّهما إذا كان لا بد، ودليل هذاأن الله عز وجل قال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ{ [الأنعام:108] سب آلهة المشركين أمرٌ مطلوب، لكن إذا كان سبُّهم يؤدي إلى سبِّ الله عز وجل صار أمراً محرَّماً {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ{ [الأنعام:108].

لو رأيتَ قوماً في مجلس على رصيف من الأرصفة يشربون الدخان ويلعبون القمار وأشياء أخرى محرمة لكنك تعلم أنك لو نهيتهم وأقمتهم عن هذا المنكر سوف يذهبون إلى حانة خمور أو الميسر أو اللواط أو الزنا، هل تنهاهم على ما هم عليه أم لا؟لا، لماذا؟ لأنه أهون، ولا يمكن أن تنقلهم من الأهون إلى الأشد والأشر، وأمثلة هذا كثيرة، لكن العاقل يزن بين الأمور ويعرِفُ النتائج وينظرُ ما هي العواقب.سئل أبو حنيفة رحمه الله عن قوم يخرجون إلى الناس يضربون ويبطشون، يقولون: نحن نأمرُ بالمعروف وننهى عن المنكر؟ فنهى عن ذلك، وقال: إنما يفسدون أكثر مما يصلحون.فلا بد أن تنظر العواقب ما هي حتى تكون على بصيرة في أمرك ونهيك.

 

الضابط الخامس:
الموازنة في حال اختلط المنكر بمعروف:

وهذا يشبه النقطةَ السابقة في وجه، ومن مثال اختلاط المعروف مع المنكر ما قد يقع في بعض المساجد مما يخالف السنة من بدع أو عادات فإن نهى أحدهم عن تلك المخالفات لربما أدت إلى نفور الناس عن المسجد، فكيف التصرف الصحيح؟
وندع الإجابة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: " وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً، لم يجزْ أنْ يؤمروا بمعروف ولا أنْ ينهوا عن منكر بل يُنظر، فإنْ كان المعروف أكثر أَمَرَ به، وإنْ استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم يَنْهَ عن منكرٍ يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النَّهي حينئذ من باب الصَّدِ عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإنْ كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرٌ بمنكرٍ وسعيٍ في معصية الله ورسوله وإنْ تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان) لم يؤبهما ولم يَنْهَ عنهما" وبمثل ذلك قال كثير من العلماء.ومثال على ذلك بعض البدع التي تحصل في المساجد في رمضان كالذكر الجماعي بين صلوات التراويح، فإنا إن أنكرنا على رواد المسجد هذا الأمر ، قد يتوقفوا عن الذهاب للصلاة من باب اجتناب البدع. وهنا نكون قد وقعنا في صد للمعروف الأكبر وهو ارتياد المساجد.

 

الضابط السادس: تأخير إنكار بعض المنكرات للوقت المناسب:

هنا لا نتوقعُ أن ننكِرَ المنكراتِ دفعةً واحدة، والشيءُ المؤلمُ والمؤسفُ اليومَ أن كثيراً من المسلمين يتهاونون بالمعاصي فتجد أحدهم متهاوناً بالصلاة ويسمع المعازف، ويرى النساء الأجنبيات، ويغش في البيع والشراء، ويكذب، ويغتاب والله المستعان! إنها مصائب مجتمعة ومنكرات.

فإذاً نحن مع قولنا في الأول بالبدء بالأهم فالأهم، والبدء بالظاهر قبل الباطن، نقول أيضاً: إن مما يجب، هو أن نؤخر ما قد يصدم مشاعر هذا الإنسان، فيجعله يرجع عما هو عليه من الحق، فإذا اهتدى وبدأ يقيم الصلاة، فنحرص بعد ذلك أن نبين له أن سماع الأغاني حرام، وأن مشاهدة النساء في الشارع أو في التلفاز أو في وسائل التواصل الاجتماعي حرام، ولنبدأ بذلك حتى يدخل في الدين تدريجياً، ويرسخ الإيمان في قلبه بالتدريج، ولا نتعجل ونقول: ما دام أنه اهتدى اليوم، فيجب في هذه اللحظة وفي هذا الوقت أن يبادر فيحافظ على الصلاة، ويترك المنكر الظاهر والباطن، وأن يترك جميع المنكرات التي هو عليها، فهذا من توقع المحال، وهذا مما يجعل بعض الدعاة يفشل في دعوته، لأنه توقع ذلك، والحقيقة أن النفس لا بد لها من التدرج، فبعض الأمور قد تؤجل إلى أمد ما محافظةً على الأصل الموجود، لكي ينمى الإيمان في قلبه، ثم بعد ذلك يترك ذلك.وكذلك الأمر بالنسبة للتلطف لحديثي العهد بالإسلام وحديثي الالتزام، فالصبر مفتاح للدعوة إلى الله واللطف واللين من أساسيات الدعوة.

 

ومن ما يؤثر في مشاعر الناس والعوام خاصة، الغلظة في إنكار بعض البدع التي يعتبرها العوام من ما يقربهم من الإسلام مثال الغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة

ولعل من الأمثلة التي توضح هذا: أنه إذا اقتصر الدعاة إلى السنة على إنكار الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنكره، وعلمنا أن ننكره، والأحاديث في ذلك معلومة؛ لكن إذا اقتصرنا فقط على القول بأن أن الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، فإن ذلك سوف يكون مدخلاً لأهل البدع، ومدخلاً لبعض المهتدين الذين هم قريبو عهد بالبدع أن يقولوا: إن هؤلاء الناس لا يعرفون من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النهي عن الغلو فيها، ولا يتحدثون عنها، ولا يأمرون بها، إذاً ما هو الواجب في هذه الحال؟

الواجب أن نبدأ بالتذكير بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته، ونجعل النهي عن الغلو فيه مع ذلك وضمنه، وإلا فقد يفتن بعض الناس من هذا الباب، يفتنه الشيطان أو يفتنه شياطين الإنس بمثل هذه الشبهات، ولا تخفى عليكم الأمثلة التي توضح ذلك في واقعنا اليوم. مثال المولد النبوي وغيرها.

 

 

الضابط السابع: الإنكار على العالم ليس كالإنكار على الجاهل

ومن القواعد والضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنكار على العالم أو على الفقيه أو على الكبير الفاهم ليس كالإنكار على المبتدئ وحديث العهد بالمعصية والجاهل.

أرأيتم لو أن أحداً من خيار الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاء وبال في المسجد -وحاشاهم من ذلك- كيف يكون الإنكار عليه؟! سوف يكون شديداً؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يفعله إنسان من خيار الصحابة ممن عرف الإيمان وحقيقته، فسوف يكون الإنكار عليه بأشد ما يمكن، وبذلك وقائع من السيرة، كإنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي ذر لما قال لـبلال: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً شديداً وقال له: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية) فهذا إنكار شديد اللهجة، فالجاهلية التي هرب وخرج منها أبو ذر رضي الله تعالى عنه وتحمل المشاق، وجاء إلى الكعبة، وجاهر بالإيمان، وضُرب حتى امتلأ بالدماء، وكل ذلك لذات الله ومن أجل الله، ويقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك امرؤ فيك جاهلية؛ لأنك أمام إنسان يعرف الحق وعرف الجاهلية، وعرف قذارتها، وعرف نتنها، وعرف كيف يفر منها كما يفر من النار أو من الأسد، فقال له هذا الكلام ليرتدع.

وفي المقلب الآخر، لكن لما جاء الأعرابي وبال في المسجد، فهذا أعرابي جاهل لا يفقه من أمر الله ودينه شيئاً، دخل وبال في المسجد، فأرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمنا أن الإنكار على الجاهل يختلف، فهذا نلاطفه، ونلاينه، ونداريه، ولا نعنفه.

فنجد في قصة هذا الأعرابي ما يشهد بهذين الضابطين:

الضابط الأول: تحمل أهون المفسدتين لدرء أعظمهما.


والثاني: إن الجاهل لا يكون الإنكار عليه كالإنكار على العالم وعلى ذي الشأن.

فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزجر الصحابة وينههم عندما ثاروا عليه ليزجروه عن البول في المسجد، لانتشر البول في أجزاء كثيرة نتيجة فزع الأعرابي وهربه، بل وسينتثر البول في ملابسه، وربما لا يعود إلى المسجد بتاتا.

إذاً نتحمل المفسدة من أجل أن ندفع مفسدة أكبر منها، فهذا شيء.

والأمر الآخر أن هذا الإنسان جاهل، والجاهل نرفق به، كما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة أن يضربوه، وأمر أن يغير المنكر، بصب دلو من الماء على البول وانتهت النجاسة.فالآن قضينا على النجاسة، وبقي أن نقضي على ما في قلب هذا الرجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: والله ما كهرني ولا نهرني، بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فلا يوجد معلم أرفق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحكم، فلما رأى الأعرابي هذا الرفق وهذه المعاملة ممن كان يظن أنه أكثر الناس شدة -ولا شك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أكثر الناس محافظة على بيوت الله، وأكثر الناس قوة في الحق، لكنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى منه اللطف واللين فقال:  اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد


وذلك لأن القلب ما تزال فيه ضغينة لهؤلاء الذين ثاروا عليه، وأظهروه مظهر الإنسان الذي لا يليق، ولكن دعا أن يرحم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو المطلوب، وهو أن يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك، ولكن أيضاً نحن لا ينبغي أن نجفو قلوب الناس عنا، فالجاهل نعلمه ونترفق به، ونبين له.

 
الضابط الثامن: عدم الإنكار في مسائل الخلاف

ثم نتكلم على مسألة وهي: أن من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وهذا الأمر مهم في ذاته لأنه كثيراً ما يفهم خطأً، ونقصد بذلك أن الأمر الاجتهادي المحض لا ينكر فيه.

وذلك إذا كان الخلاف معتبراً عند أهل العلم وخاصة عند المذاهب الإسلامية المتبعة، لأنَّ لكل مذهب إمام ودليل عليه العمل، ولا يمكن أنْ يتفق أهل العلم في كل الفروع والأحكام، ونعم المصيب واحدـ؛ لأنّ الحق واحد لا يتعدد والمخطئ غير متعيّن لنا ولا يمكن الجزم بالصواب مطلقا، والإثم مرفوع عن المجتهد وعمّن يتابعه ويقلده، ولا يمنع ذلك من الرّدِّ العلمي ومناقشة المخالف بالأدلة ونحو ذلك.
وتحدث الفقهاء عن الخروج من الخلاف وهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق كما قالوا، واتفقوا على أنّ الخروج من الخلاف سنّةٌ إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر .
 أما الخلافُ الشّاذُ أو غير المعتبر فيحق بل يجب الإنكار على صاحبه، لعدم قيامه على دليل مقبول ولا قيمة لهذا النوع من الخلاف ولا يمنع من الإنكار.

 

 

الضابط التاسع:
أنْ يكون المنكر واقعاً في الحال لا في الماضي:

فلا يجري الإنكار على ما وقع من شخص ما من منكرات في أزمان ماضيّة، إلا إن كان من باب التذكير بالتوبة ونحوها لمن فرط أو قصر في حق الله تعالى أو في حقوق الناس.
فتذكير الناسِ بذنوبهم الماضية، قد يلحق الأذى بهم وخاصةً إن تابوا عنها وصلِحوا بعدها. وبهذا نكون قد ذكرنا تسعَ ضوابط، وهذا ليس على التعين بل قد يجتهد أحد ويزدها أو ينقصها أو يدمجها، وهذا من الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ونذكر بعض الآداب ونمر عليها سريعاً..

أولها:

1- الإخلاص:

وهو أصلٌ عند الشروع في كل عبادة من العبادات، فيجب على الآمر والناهي أنْ يستحضر وينوي في أمره أو نهيه مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأكتفي بالتذكير ألّا يتحول الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر إلى حب الظهور أو الجدال والحذر من الوقوع في الكبرِ أو العُجبِ وغيرهما من المقاصد التي تنافي المقصد الشرعي وتفسد الثواب على العبد.

2- الصبر:

وقد مرت معنا ضمن صفات الداعية، فإن أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر يُعَرِّضُك لأذاهم؛ والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مظنة حصول الأذى أو بعض الأذى من الناس فلا بد لمن يقوم بهذا الواجب من الصبر وأنْ يُوطِّنَ نفسه على ذلك ولا يكون أذى الناس صارفاً له عن هذا الواجب.
3- واجبك هو البلاغ:
فلا يصح ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمظنة عدم استجابة الشخص المدعو وعلى هذا أكثر العلماء.
كما في الآية: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة99]، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات55]، والهادي هو الله سبحانه وتعالى.

                 4- الستر:
 وما أجمل قول الشاعر:  
تَعَمّدْني النّصيحةَ في انفرادٍ     وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ ضربٌ       من التوبيخِ لا أرضى استماعه
 
             5- اللين والرفق:
وخاصة مع الجهلاء والضعفاء من الناس، فيما يشمل عموم الدعوة والنصح مع الكافر ومع المسلم أيضاً من بابٍ أولى:
فالترفق مع الناس سبيل إلى كسب مودتهم واستجابتهم. وفي صحيح البخاري: « يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ.
             6- التواضع:
بأنْ لا يستكبر الآمر أو الناهي على الناس بكونه أعلم منهم أو لم يقع بما وقعوا به مِنْ ذنوب؛ فَرُبّ مُذنبٍ تائبٍ خيرٌ مِنْ ذِي طاعةٍ يستكبرُ على المُذنب.
             7- ألّا يخالف ما يأمرُ به وما ينهى عنه:
وذلك من الصدق مع النفس ومع الله تعالى، ولقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف2-3]، وكلما كان مَنْ يتصدر لهذه الفريضة ممن يعرفه الناس بالالتزام والمروءة والخلق الحسن كان ذلك أدعى لتقبلهم واستجابتهم، وهو مما يُعينُ المرء على التأثير في الناس.
 
           8- العلم أنّ النهي بالقلب مقدور عليه دائماً:
إذ أنّ المسلم لا يمنعه شيءٌ من كراهية المنكر بقلبه، وهذا في وسعِ واستطاعة الجميع كباراً وصغاراً في كل الأحوال والظروف، وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه أنْ جعله أدنى الدرجات.
           9- ترك مجالسة صاحب المنكر:
الجلوس يعتبر علامة رضى بما يقع في المجلس من خير أو شر فإنْ صَاحَبَ المَجلسَ وُجودٌ المنكر فيجبُ الإنكار ثم الهجران للمجلس قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }، وهذا مما يقع به البعض من الناس أنْهم يجالسون أهل المنكرات ويتذرعون أنهم ينكرون عليهم بالقلب، وأيُّ نكارة في القلب لمن يجالس ويخالط أهل المنكر.
         10- أنْ يستعين بمن يثق بهم:
طلبُ المعونة من الإخوان ووجوه الناس ومن هو أعلم منه، فذلك أدعى للتأثير وأقوى في استجابة الناس، وكما قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس13-14]. وطبيعة مهمة الأمر بالمعروف أنها مهمة دعوية ولذلك تحتاج إلى أخٍ يَشُدُّ مِنْ أزرك في القيام بها.كما قال موسى للمولى تبارك وتعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}.

ويراعي من يَأْمُرُ ويَنْهى ألّا تتحول النصيحة إلى فضيحة لأخيه المسلم، كم ذكرنا كلمة الغمام الشافعي رحمه الله تعالى: "من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانيةً فقد فضَحَه وشانه".

وفي الختام نذكر بعظم أجر القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ففي الحديث: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، فمَن لَمْ يَجِدْ؟ قالَ: يَعْمَلُ بيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ ويَتَصَدَّقُ قالوا: فإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قالَ: يُعِينُ ذا الحاجَةِ المَلْهُوفَ قالوا: فإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قالَ: فَلْيَعْمَلْ بالمَعروفِ، ولْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فإنَّها له صَدَقَةٌ.. هؤلاء إخوانك، إن لم تصلحهم أنت من يصلحهم؟

قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان عن ميسرة، عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ  قال خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلاموأعود لأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضعيف في مجتمعنا، وضعيف حتى في أنفسنا، وفي بيوتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وإنه لأمر عظيم، وإن له قواعده وضوابطه التي يجب علينا أن نعرفها وأن نتواصى بها، وأن نحث أنفسنا على تطبيقها بإذن الله تبارك وتعالى، وأنه مهما كان قلة العدد، وضعف الإمكانيات، إذا تمسكنا بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وفي الأمر والتغيير، فإننا بإذن الله تبارك وتعالى سوف نحقق ما نريد، بل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن غرضنا إنما هو إرضاء الله.

نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب لنا ولكم رضاه وتوفيقه ونصره، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.





تعليقات