img
img

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الفتن

img
منصة كلنا دعاة

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الفتن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ رب العالمين والصلاةُ والسلامُ على عبده ورسوله الأمين إمام الدعاة وسيد العلماء وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه القويم في دعوة الناس أجمعين. أما بعد:

قال : «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتَكم هذه جُعِل عافيتُها في أولِها، وسيُصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنةٌ فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ...» [رواه مسلم].

وإن المتأمل في زماننا هذا يدرك تماماً كيف عمّت تلك الفتن وانتشرت انتشار النار في الهشيم، ذنوبٌ ومعاصٍ وآثام ليلَ نهار، عقوق وتحاسد بين القلوب والأبصار، عبثٌ ولهوٌ وضياعٌ بين الطبلة والمزمار، فقرٌ وجوعٌ من هنا وهناك، غلاءٌ في الأسعار، قتلٌ وتشريدٌ وهتكٌ للأستار، الإسلامُ يحارَب في عقر داره، والمسلمون مستضعفون في أرضهم، وليس لهم نصيرٌ إلا الله، والكافر يصول ويجول وتغريبيٌ ليس له هدف سوى كيف يذوب المجتمع في الرذيلة ويؤول، أمراض فتاكة لم تعرف من قبل، وموت فجأة للشباب أكثر من الشيب، وغيرها الكثير الكثير من الفتن ما ظهر منها وما بطن, يندى لها الجبين وتشيب لها الولدان.

من هنا كان واجبا على كل مسلم أن يواجه هذا السيل العظيم بكل ما أوتي من قوة وأن يتصدى لهذه الحروب الشعواء التي تطال المسلمين في دينهم وإيمانهم ودنياهم، وأن يكون له وقفة جادة حيال ردِّها وإنكارها بكل ما أوتي من قوة، ولا يحصل له ذلك إلا حينما يتعرف عليها أولاً، ثم يتعرف على واجبه تجاه ردها وإنكارها.

 

وقد كان أئمة السلف في مثل هذه الأوقات يحرصون على أمرين:

- العلم.

- والعبادة.

فالعلم بصيرة ومنار وتجلية للحقائق وإزالة للغوامض، لأنه في أوقات الفتن يظهر المنافقون والذين في قلوبهم مرض فيلبسون على الناس دينهم ويقلبون الحقائق ويوغرون في صدور المؤمنين فيهونون المنكرات وينكرون المعروف.

وأما العبادة، فما أعظم من حث الناس على طلب العلم الشرعي الصحيح والعمل به وربط الناس بالعلماء الصالحين المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والذين يقربون الناس من دينهم الحق ويحثونهم على القيام بالعبادات الصحيحة دونما زيادة أو نقصان ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ليكونوا من الفرقة الناجية بأمر الله وفضله.

وقد جاء في قوله : " تعرضُ الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرَها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه " [متفق عليه].

ومن صفات الفتنة أنها تأتي شديدةَ الاشتباه، كونُها مظلمةً، لا يتضح فيها جواب كثير من الناس، روى حذيفة أن النبي لما ذكر الفتن ومراحلها التي تمر بها قال في آخره: "فتنةٌ عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن تَمُتْ يا حذيفة وأنت عاضّ على جذل - وهو أصل الشجرة - خيرٌ لك من أن تتّبع أحداً منهم".

فالحذار الحذار من المنافقين الذين نكت قلبهم بالسواد القاتم فباتوا لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا وذلك لأنهم استساغوا المنكرات. والحذار الحذار من دعاة على أبواب النار يلقون بأتباعهم إلى التهلكة والعياذ بالله.

فالدعوة الإسلامية إذاً تتعرض لشتى أنواع الحروب والفتن ما ظهر منها وما بطن، بهدف زعزعة الإيمان وتمييع الدين. فتتسلل المنكرات إلى مجتمعاتنا الإسلامية دونما رقيب ولا حسيب، لتتغلغل في الدعوة بغية تحوير مسارها الإصلاحي وتشويهها.

 من هنا وجب الإصلاح لدرء الفتن وحماية هذا الدين العظيم: ولا يمكن حماية الدعوة من الذوبان ودخول غيرها عليها إلا بأمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا دخل المنكر إلى الدعوة دون إنكاره حولها عن مسارها وغيّرها وشكّلها على نحو مختلف وغيّر فيها مع الزمن.

وقد ذكر المعروف في القرآن لأهميته ثمانٍ وثلاثين مرة (38 مرة)، وكما ذكر المنكر (16) ست عشرة مرة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الأمة الإسلامية.

وقد اهتم العلماء رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وألفوا في ذلك المؤلفات، ولقد ألف الإمام ابن أبي الدنيا المتوفى سنة 281 كتاباً سماه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالاسم نفسه ألف شيخ الحنابلة أبي بكر الخلال رحمه الله المتوفى سنة 311 ولعبد الغني المقدسي المتوفى سنة 600 هجرية، صاحب كتاب عمدة الأحكام كتاب اسمه الأمر بالمعروف، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى المتوفى سنة 728 هجرية كتاب اسمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من العلماء والأئمة فضلاً عن المعاصرين الذين ألفوا كتب تعتني في هذا الجانب.

قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].

وردت صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة لمطالبة المسلمين بالقيام بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيغة الأمر هي لام الأمر، وقال ابن عاشور:" هي صيغة وجوب لأنها أصرح في الأمر ..".

قد ذكر الله شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آمراً بها، وربط الفلاح بتحقيقها فلا تُفلِحُ أمةٌ ليس فيها مصلحون، وفي قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} أمرٌ للأمة بالقيام بالنصيحة والإصلاح، وعطفُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر على الدعوة إلى الخير من عطف الخاص على العام، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوةٌ.

والله قدر ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث صفاتٍ، وهي: الدعوة إلى الخير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأخبر أن المتصفين بهذه الصفات هم المفلحون.

والأمر في الآية يتوجه إلى الراعي والرعية، الحاكم والمحكوم، أن يَندُب منهم من يقوم بحفظ هذه الشعيرة، كما يُندَب منهم جُباةٌ للزكاة، وقُضاةٌ للحدود، وأئمةٌ للقيام بالصلاةِ، ومؤذنونَ للقيامِ بالأذان.

ولذلك يجب على الحاكم أن يصطفي من أهل العلم والأمانة والصبر من يقوم بالحسبة ولو ترك الحاكم ذلك أو عطله أو قصر فيه، وجب على العامة أن ينتدبوا منهم من يقوم بذلك شريطة أن يكون من أهل العلم والأمانة، حتى يتحقق الإصلاح والحسبة، حتى لا يتواكلَ الناس بعضُهم على بعضٍ، فينتشَر الشرُ، وينقصَ الخيرُ.

 ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدّم على الإيمان بالله في هذه الآية وذلك لأهميته وعظم شأنه وأن الإيمان لا يكتمل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية لتعرف حقيقتها وقيمتها. وتعرف أنها أخرجت لتكون لها الطليعة والقيادة، بما أنها هي خير أمة ينبغي دائما أن تعطي غيرها من الأمم مما لديها، من الاعتقاد الصحيح، والنظام الصحيح والخلق الصحيح والعلم الصحيح والمعرفة الصحيحة: فهذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها وتحتمه عليها غاية وجودها.

وقد جاءت الشريعة لحماية الناس من تغلغل المنكر في أذهانهم وهذا أمر واجب لا يسقط على الإطلاق، كما في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ" قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "لِلَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَامَّتِهِمْ، أَوْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" فالنصيحة تتوجه لأئمة المسلمين وعامتهم.

فطالما وضع الناس مخافة الله نصب أعينهم وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر خوفا على عقائد الناس من غير تشفّ أو هوى نفس، كان مدخلا للإصلاح.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف، وإما بمنكر".

فما هو المعروف:

لغة: هو المعلوم، يقال لغة: عرف الشيء، يعرفه معرفة وعِرفاناً، إذا علمه.

ويقال: عرفّه الأمر، إذا أعلمه إياه، وعرفه بيته إذا أعلمه بمكانه.

فالأمر المعروف هو الأمر المعلوم، والمعروف ضد المنكر بمعنى المجهول.

ويطلق المعروف والعرْف على الجود والإحسان، يقال: فلانٌ صاحب معروف أو عرف أي: جواد محسنٌ. ويطلق المعروف لغة على ما يستحسن من الأفعال.

أما المعروف في الاصطلاح الإسلامي: فهو يطلق على كل ما أمر الشارع بفعله إلزاماً أو ترغيباً، فهو كل ما يستحسن فعله في الإسلام، ويدخل فيما هو مستحسن في الإسلام كل ما هو حسنٌ في العقول السليمة الصحيحة الرشيدة التي فطرنا الله عليها.

فالمعروف كل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.

وأما: المنكر فقد ذكرنا سابقاً أنه الأمر المجهول، (تعريف المنكر من كتب اللغة) وفي الاصطلاح: فهو يطلق على كل ما نهى الشارع عن فعله نهياً إلزامياً تحريمياً، فهو كل مستقبح في الإسلام، ويدخل فيما هو مستقبح في الإسلام ما هو قبيح في العقول السليمة الرشيدة.

ولا يدخل في المنكر ما يستحسن تركه ولا ينبغي إنكاره، بل يقال فيه: من المعروف تركه، لأن الشارع أمر بتركه ترغيباً لا إلزاماً، وسنوضح ذلك إن شاء الله في موضعه.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيانة للأمة من أن يعبث بها كل ذي هوى، وكل ذي شهوة، وكل ذي مصلحة، يقول برأيه وتصوره، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى وتعظيم لشأنه جل في علاه.

فتعظيم الأمر والنهي ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال تعالى: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح 13].

فأول مراتب تعظيم الله عزوجل: تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أُرسل بها الرسل إلى أقوامهم وأُرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله ونهيه دالاً على تعظيم صاحب الأمر والنهي.

ومن علامات تعظيم الله أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه ويجد في قلبه حزناً وكسرة إذا عصيَ اللهُ تعالى في أرضه ولم يُطع بإقامة بحدوده وأوامره ولم يستطع هو أن يغير ذلك.

ومن تعظيم الله عز وجل تعظيم أمره ونهيه.

فمن علامات تعظيم المناهي: الحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها ومجانبة كلِ وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة، خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المنهيات، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها، فإن مخالطة مثل هذا مدعاة إلى سخط الله تعالى وغضبه.

فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

ولا يدومُ تمكينُ أمةٍ ليس فيها مصلحون، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج (41)]، فيبتدئُ التمكينُ لكنهُ لا يدومُ إلا بهذه الشروط الثلاث:

الصلاة والزكاة والإصلاح، فالصلاةُ صِلةٌ للعبدِ بربه، والزكاةُ صلةٌ للعبد بأخيه، والإصلاحُ حِفظٌ لحقِّ ربهِّ وحق أخيهِّ.

والإصلاحُ ركنٌ في الإسلامِ، ووجود الصالح، إذا لم يكن مصلحاً أهلك الله به الأمة،

قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [117هود].

ولذلك لما سألت زَيْنَبُ بنت جحش رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قائلةً: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ" فأجابها صلى الله عليه وسلم:" نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" والخبث يكثر بانعدام الإصلاح؛ لأن المصلح نفعه متعدٍ، فإن الله يرحم الأمة التي فيها مصلحون ولو لم يكثر فيها الصالحون، ولو كثر فيها الصالحون وانعدم المصلحون فهي أمة تستحق العقوبة وهذا من حكمة الله عز وجل.

وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الذي يتعاطى أهل الحق فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضد المنحرفين عقائدياً وسلوكياً وأخلاقياً بركاب السفينة إذا تركوا السفهاء يخرقونها فيغرقون جميعاً، الصلحاء منهم والسفهاء، فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا" [رواه أحمد والبخاري].

كما أخبر الله تعالى عن أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي الطرد من رحمة الله تعالى: قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [(79) المائدة)].

فعبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأفراد، فمتى قام موجِبُها تعينت، فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" [رواه أحمد ومسلم وأهل السنن]، فقيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوبَهُ بالرؤية، والرؤيةُ تقوم في الأشخاص، متى رأوا المنكرَ، وجبَ عليهم الأمرُ والنهيُ.

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: " الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والجهاد سهم، وصوم رمضان سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والإسلام سهم، وقد خاب من لا سهم له".

ولذلك حرص الإسلام حرصاً شديداً على جعل كل المسلمين والمسلمات حراساً لأسوار الفضائل وتعاليم الدين الحنيف، فمن جاهد منهم المنحرفين بيده فهو مؤمن، ومن جاهد بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهد بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

ومن النصوص الدالة على أن القيام بالدعوة من أسباب الحصول على الفوز والفلاح قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [(72)التوبة].

ومما نجد في هاتين الآيتين الكريمتين أن الله عز وجل وعد من اتصفوا بخمس صفاتٍ وهي:

1- كونهم أولياء للمؤمنين.

2- قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- إقامتهم الصلاة.

4- إيتاءهم الزكاة.

5- طاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وعدهم الله بفيضان رحمته في الدنيا وحسن مثوبته في الآخرة، وأخبر بأن حصول المتصفين بتلك الصفات الخمس على ما ذكر، وهو الفوز العظيم دونما سواه مما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شروط النجاة من الهلاك والفوز بالفلاح، وهذا يدل على عظيم شرف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

وبعد بيان كل ما سبق من أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأثيرهما على المجتمعات نصطدم بواقع أليم ومرير. فنرى كثيرا من العلماء والدعاة لا يأخذون الإصلاح بشقيه المتكاملين، إنما يكتفون بالأمر بالمعروف ويتغاضون عن النهي عن المنكر، حيث يتم تغييب هذا الجانب في زمننا هذا، طمعا في التحضر المزعوم. وهذا ما أدى للخلط وعدم الموازنة بين جانبي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاحتاج الناس إلى معرفة أهمية الجوانب الدينية كلها. فالاستهانة بالذنوب بحجة وجود الحسنات في جوانبَ أخرى أمر عظيم يجب التنبه منه. وهذه الفتن سببها الدعاة الذين يركزون على جانب الأمر بالمعروف ولا ينكرون المنكر. كما أن الإعلام الذي يلعب دورا خبيثا في تمييع المنكر، قد أثر بشكل عام على الوعي الشرعي للعوام.

من هنا احتاج العلماء المصلحون إلى بيان الحق وإنكار المنكر فاصطدموا باعتقادات الكثير من العامة الذين ظنوا بأن هذا ضرب من ضروب التشدد والغلو وأن الشريعة قد جاءت بالمعروف فقط، فأشبعوا أنفسهم بالجانب الأول واستهانوا بأمور كثيرة ومنها التوحيد والحجاب وغيره. من هنا

تتسلل الدعوات الباطنة تحت أولئك الدعاة فكانوا لبنة للتغريب وإشباع رغبات الغرب.

فلا يعذر الإنسان إن اجتنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة اللوم، وفيها الإجماع. (لا يخافون في الله لومة لائم) فالامتناع عن هذه العبادة يكون فقط مخافة وجود ضرر بدني قد تعود على الناصح.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه أو شهده أو سمعه" فقال أبو سعيد: وددت أني لم أكن سمعته. وقال أبو نضرة: وددت أني لم أكن سمعته" و" قولهم "وددت انى لم أسمعه " إشارة لصعوبة العمل بهذا الحديث.

قَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .

وَإِمَّا حُصُولُ فِتْنَةٍ وَمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَفَسَادٌ قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ  وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

فَمَنْ أَمَرَ وَلَمْ يَصْبِرْ أَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَوْ لَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَصْبِرْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مَفْسَدَةٌ وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ فِي أَنْ يَأْمُرَ وَيَصْبِرَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: {بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ} " اهـ.

وكثير من الناس يرون أن إنكار المنكر على الحاكم لا يجوز، ولكن هذا اعتقاد خاطئ، اذ أن الشريعة شجعت على بيان الحق وأيدته ولم تعطل إنكار المنكر العام الذي يربط بين المنكر وفاعله. فبعض الناس يدمج بين الأمرين وهما:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يرتبط بالحاكم وبين الخروج عن ولي الأمر والفتنة.

ومن هؤلاء المرجئة الذين يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من الفتنة، وهذا أمر خاطئ.

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".

أما وقد بينّا عظم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن للآمر صفات يجب عليه أن يتصف بها، وخصال يجب عليه أن يتسم بها لكي يحقق المنفعة العظمى لدينه ويحمل الناس على طاعته:

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "فَصْل (مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر).

ثم قال: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر مُتَوَاضِعًا، رَفِيقًا فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ شَفِيقًا رَحِيمًا غَيْرَ فَظٍّ وَلَا غَلِيظ الْقَلْب، وَلَا مُتَعَنِّتًا، حُرًّا وَيَتَوَجَّه أَنَّ الْعَبْد مِثْله وَإِنْ كَانَ الْحُرّ أَكْمَلَ، عَدْلًا فَقِيهًا، عَالِمًا بِالْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّات شَرْعًا، دَيِّنًا نَزِهًا، عَفِيفًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَة وَشِدَّة فِي الدِّين، قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْه اللَّهِ عَزَّ جَلَّ، وَإِقَامَة دِينه، وَنُصْرَة شَرْعِهِ، وَامْتِثَال أَمْرِهِ، وَإِحْيَاء سُنَنِهِ، بِلَا رِيَاء وَلَا مُنَافَقَة وَلَا مُدَاهَنَة غَيْر مُتَنَافِس وَلَا مُتَفَاخِر، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِف قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَيُسَنُّ لَهُ الْعَمَل بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبَات وَالرِّفْق، وَطَلَاقَة الْوَجْه وَحُسْن الْخُلُقِ عِنْد إنْكَاره، وَالتَّثْبِيت وَالْمُسَامَحَة بِالْهَفْوَةِ عِنْد أَوَّل مَرَّة .

قَالَ حَنْبَلٌ: إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول وَالنَّاس يَحْتَاجُونَ إلَى مُدَارَاة وَرِفْق، الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَة إلَّا رَجُل مُعْلَن بِالْفِسْقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْك نَهْيُهُ وَإِعْلَامه لِأَنَّهُ يُقَال لَيْسَ لِفَاسِقٍ حُرْمَة فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ .

وَسَأَلَهُ مُهَنَّا هَلْ يَسْتَقِيم أَنْ يَكُون ضَرْبًا بِالْيَدِ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ الرِّفْق.

وَنَقَلَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ مَهْلًا رَحِمكُمْ اللَّه".

فلا تظن أنك خير من الناس حين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، بل الواجب أن تنكر عليهم وأن تخشى من الله عز وجل أن يوقعك فيه. أنكر ولا تتكبر ولا ترى أنك أفضل منهم، فمن تواضع لله رفعه.

أما وقد ذكرنا صفات الآمر الناهي، فعلى من يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل يجب على الأطفال أم أنه يقتصر على الكبار؟

أقول: يجب أن يكون المُنكِر مكلفاً مسلماً قادراً، وهذا شرط لوجوب الإنكار. فإن الصبي المميز، له إنكار المنكر، ويثاب على ذلك، لكن لا يجب عليه.

والشرط أن يكون عادلاً: فاعتبرها قوم وقالوا: ليس للفساق أن يحتسب، وإنما استدلوا بقوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة: 44 ] وليس لهم في ذلك حجة .

وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب:

ننظر فمن كان له ولاية على أحد ووجد منه منكراً، فلينصحه وينبهه ويأمره بالمعروف، فإذا وجدت ابنك مثلاً لا يصلي فلتنصحه وتتلطف إليه وتتقرب منه وتطلب منه أن يصلي فإذا أردت الصلاة فناده وقل له توضأ لنصلي أو توضأ لنذهب إلى المسجد لنصلي جماعة وكرر ذلك عدة مرات فإن رفض فهنا يكون تغير المنكر باليد لأن لك على ولدك سلطة وولاية لكن لا يكون الضرب مبرحاً وهنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ"، أي من لك عليه سلطة وولاية، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ...".

أما الذي لا ولاية لك عليه كالصديق الذي لا يصلي أو يرتكب منكراً معيناً فهنا يكون التغيير باللسان "فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ"؛ لأنه إذا أردت أن تأمر بالمعروف فليكن بالمعروف وإن أردت أن تنهى عن المنكر فليكن بالمعروف، ولتنصحه سراً بينك وبينه، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله " من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه".

فالنصيحة تكون سراً وهذا أدعى إلى أن يتقبلها منك، وكرر ذلك عدة مرات وتلطف معه وقل له قولاً لينا، الله عز وجل عندما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال لهم {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} لمن القول اللين؟ لفرعون.  فرعون ماذا فعل؟ قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} الذي قال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ومع ذلك قال الله تعالى قولا له قولاً لينا؛ لأن المراد أن يعود عن المنكر ويتذكر ويخشى فلذلك كانت البداية معه بالمعروف واللين قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، نعم هذه هي الغاية وهذا هو المراد أن يتذكر ويخشى فالغاية من النهي عن المنكر أن يتذكر مرتكب المنكر ذنبه وخطأه ويخشى الله عز وجل ويخشى عقابه سبحانه وتعالى ويعود عن منكره، أما من نصحته بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة فرفض وشتمك فهنا يكون تغيير المنكر بالقلب "فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" وكيف يكون التغيير بالقلب يكون التغيير بالقلب والقالب معاً يعني بعد أن نصحته سراً ثم وعظته وصبرت عليه وقلت له قولاً لينا ثم رفض لا يكفي منك أن تقول اللهم إن هذا منكر لا أرضى به، بل يجب هجره حتى يشعر بعظمة الأمر والمنكر ويعود عنه، أما إذا وجدته على منكره ونصحته فلم ينتصح وأصر على منكره وبقيت معه تجامله وتكلمه وتأكل معه وتشرب وتذهب معه وتتواصل معه فكيف سيشعر بعظمة الذنب والمنكر الذي يرتكبه.

فإذن: المراتب الثلاث للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي:


1. التغيير باليد.

2. التغيير باللسان

3. الإنكار بالقلب.


{كنتم خير أمة} الخيرية هي أننا لا نترك من يأتي منكراً إلا إذا نبهناه، وهذا لا يعني أن الآمر بالمعروف أحسن وأفضل من الذي يرتكب المنكر لا بل يعني إذا كنتُ في غفلة نبهني أنت وإذا كنت أنت في غفلة نبهتك أنا قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. قال الشافعي رحمه الله: الناس في غفلة عن هذه السورة، وقال أيضاً لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم.

ولابن القيم كلام جميل حول سورة العصر في كتابه مِفتاح دار السعادة قال بعد أن ذكر كلمة الإمام الشافعي السابقة قال رحمه الله: "وأقسم سُبْحَانَهُ فِي هَذِه السُّورَة بالعصر ان كل أحْدُ فِي خسر الا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم الَّذين عرفُوا الْحق وَصَدقُوا بِهِ فَهَذِهِ مرتبَة وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم الَّذين عمِلُوا بِمَا علموه من الْحق فَهَذِهِ مرتبَة اخرى وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصّى بِهِ بَعضهم بَعْضًا تَعْلِيما وارشادا فَهَذِهِ مرتبَة ثَالِثَة وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ صَبَرُوا على الْحق ووصى بَعضهم بَعْضًا بِالصبرِ عَلَيْهِ والثبات فَهَذِهِ مرتبَة رَابِعَة وهذا نهاية الْكَمَال فَإِن الْكَمَال ان يكون الشَّخْص كَامِلا فِي نَفسه مكملا لغيره وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح الْقُوَّة العلمية بالإيمان وَصَلَاح الْقُوَّة العملية بِعَمَل الصَّالِحَات وتكميله غَيره بتعليمه اياه وَصَبره عَلَيْهِ وتوصيته بِالصبرِ على الْعلم وَالْعَمَل فَهَذِهِ السُّورَة على اختصارها هِيَ من اجْمَعْ سور الْقُرْآن للخير بحذافيره وَالْحَمْد لله الَّذِي جعل كِتَابه كَافِيا عَن كل مَا سواهُ شافيا من كل دَاء هاديا الى كل خير".

وقال أيضاً في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي حول كلامه عن سورة العصر، قال: " وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ وَيُرْشِدَهُ إِلَيْهِ وَيَحُضَّهُ عَلَيْهِ.

جعلنا الله وإياكم ممن يتواصون بالحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

تعليقات

الكلمات الدلالية