img
img

الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان.. قراءة في التحديات الأمنية والأبعاد الاستراتيجية

img
منصة أفق السياسة

الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان.. قراءة في التحديات الأمنية والأبعاد الاستراتيجية

إذا حللنا بتأمل وتؤدة خطاب الرئيس الأمريكي "جو بايدن"   منتصف الشهر الثامن من السنة الجارية(٢٠٢١) يمكننا أن نفهم تعددية الأبعاد الإستراتيجية من وراء الإنسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان بشكل مفاجئ...؛ فالرئيس  قال في خطابه “أنا أقف بقوة وراء قراري بعد 20 عاماً، تعلّمت بالطريقة الصعبة أنّه لن يكون هناك أبداً وقت جيّد لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان”؛ وأضاف “أنّ المصلحة القومية لبلاده في أفغانستان كانت تتمحور بشكل أساسي حول منع استهداف الولايات المتحدة بهجمات إرهابية انطلاقاً من البلد الغارق في الحرب"،(أفغانستان) وبالتالي جاء خطابه مشدّداً على أنّ “المهمة في أفغانستان لم تكن يوماً بناء دولة

وأضاف “أعطيناهم كل فرصة لتقرير مستقبلهم لا يمكننا أن نعطيهم الإرادة للقتال من أجل مستقبلهم”.

إذن بهذه الكلمات المختصرة جدا وإقرارا بهزيمة "القوة العظمى"؛ يمكننا أن نترجم واقع التحديات الأمنية والتكاليف الاقتصادية الباهظة التي أكرهت  الولايات المتحدة على الخروج من دولة فقيرة عانت مضض المرين لسنوات عديدة في حربها مع السوفيت وهزمتهم... وأخيرا مع أمريكا التي خرجت معترفة بهزيمة مرة وقاسية تجلت في قبول الخروج بطريقة محتشمة حتى النخاع من أفغانستان.

 منذ دخولها أفغانستان في ٢٠٠١ فقدت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقارب ٣٥٠٠ جندي امريكي حسب دراسة أجرتها جامعة ابراون الأمريكية نهاية ٢٠٢٠ وما خفي أعظم وقد خسرت عشرات الآليات والأسلحة والطائرات العسكرية المتطورة واستولت طالبان عليها بعد انهيار الجيش الأفغاني الذي بدأ منذ سنوات وكأنه يقاتل في حرب مُكْرَهٍ على خوضها نتيجة لضعف العقيدة القتالية له؛ وشتان ما بين يقاتل لكسر شوكة محتل ومن يقاتل لدولارات يجنيها شهريا، وهو مضح بنفسه لذلك

ويتضح من خلال الدراسات والأبحاث الدولية أن العديد من الجنود الامريكيين ماتوا في افغانستان بسبب الانتحار والأمراض النفسية لأن حركة طالبان الحركة السنية الحنفية المذهب؛ استطاعت أن تزرع الرعب في الجنود الأمريكيين عن طريق الشجاعة المنقطعة النظير في المواجهة العسكرية؛ وقد بينت بذلك أن لديها قدرات وخبرات متميزة في أساليب حرب العصابات في تضاريس وجبال أفغانستان الوعرة؛ وليست "تورا بورا وأخواتها من ذلك ببعيد"؛ وذلك نتيجة لخوض هذه الحركة الحرب ضد الاتحاد السوفيتي وإرغامه على الخروج من أفغانستان في أوج ازدهار الصحوة الإسلامية في العالمين العربي والاسلامي وخاصة في دول آسيا...

ويترجم قوة العقيدة القتالية لأفراد الحركة ما يتجلى في كيفية واستراتيجية القتال المتبعة لديها، وإذا نظرنا إلى ذلك حسب المعطيات والمعلومات الموثقة إعلاميا في التلفزيونات وغيرها  نرى الأمر غريب جدا حيث نرى مئات الأفراد أو آلافهم  من المقاتلين وهم يلبسون الزي الأفغاني التقليدي وبنيتهم الجسمية عادية جدا، لكن هنالك عامل يلفت الانتباه وهو “عامل العقيدة القتالية” فلم أسمع تصريحا ولا تسجيلا بالصوت أو الفيديو لقائد ميداني من هذه الحركة وهو يتكلم إلا و هو واثق من نفسه بشكل مذهل وهو أحرص على الموت من الحياة من شدة قوة عقيدته القتالية؛ وهذا حقيقة هو سر القوة القتالية لهذه الحركة التي تتميز بسلاسة التنظيم واتباع الأوامر القتالية؛ حتى أن اغلب مقاتليها لا يصرح للإعلام من دون إذن القائد الميداني الموجود.

كما أن طابع التسلح الخفيف واختيار أماكن التموقع و"الهجوم قبل الدفاع" وسرعة الإنسحاب والتخفي" عوامل اتسمت بها الحركة وسهلت من عمليات اصطيادها للقوات الأفغانية والأمريكية وقوات حلف الناتو الداعمة لها؛ وهذه الأخيرة كانت مهمتها قبل انسحابها ٢٠١٤ تتجلى في تدريب القوات الأفغانية على استخدام كافة الأسلحة والطيران لتكُوّن منها جيشا قادرا على التصدي للعدو في أي موقف… وقد جابهت هذا الأمر  الحركة في أول وهلة بأسلوب ذكي جدا وهو أسلوب”الهجوم قبل الدفاع” فكانت لا تترك فرصة للجيش الأفغاني إلا وأضاعتها عليه؛ وقد كانت دائما تستهدف مراكز تدريب للجيش ومراكز تدريب الشرطة في المديريات النائية؛ كأسلوب لاستئصال "ورم العدو"؛ وكانت عملياتها في الغالب تتسم بالنوعية وسرعة التنفيذ في أوقات المباغتة؛ نتيجة لخبرة  مقاتليها المكتسبة منذ حرب الثمانينات، الامر الذي ترجم  صورة رائعة للقتال البارع في ميادين مختلفة وامتلاك مفاتيح إدارة "حرب العصابات" التي من المعروف أنها تنهك الجيوش المنتظمة؛ خاصة إذا كانت التضاريس الوعرة مساعدة في ذلك.... ولا ينبغي أن عوامل التأثير والتأثر المتجسدة في الحاضنة الشعبية للحركة وقد يكون من أهم أسباب تلك العوامل انتشار المذهب السني في أغلبية الشعب الأفغاني وامتلاك العدد الأكبر من مقاتلي الحركة لروح الهوية الوطنية الأفغانية التي تترجم أساسا في التأثر بالدين الاسلامي الحنيف وتجعله منه مرجعية شاملة في كل الأمور.

إذن تلك أسباب أساسية ومهمة  ومُلهمة؛ كانت مُعينة في انتصار حرب العشرين عاما على القوة العظمى في العالم(الولايات المتحدة ودول حلف الناتو وحلفاؤهم في العالم...) الأمر الذي أعطي دروسا غير مباشر للدول القوية والمستعمرة على أن إراة الشعوب لا يمكن أن تقهر بالقوة وإنما تقهر بالعدل والسلم والسلام واحترام الدين الإسلامي في مكان من العالم

كما أن تلك الدروس"العسكرية الممُحصة" شكلت رسائل غير مشفرة لقادة العالم من حكام طغاة وعسكريين أن  الحركات المسلحة والمجاهدة لا تجابه بالأساس بالسلاح والجيوش المدمرة وإنما أهم سلاح لمواجهتها هو الحوار وليس السلاح؛ وقد بينت حرب افغانستان هذه دليلا واضحا على أن حرب العصابات هي أسلوب قتالي لا تتم مواجهته بالقتال النمطي المعروف في المفاهيم العسكرية؛ وقضية المليشيات القبلية وأمراء الحرب من قبيل عبد الرشيد دستم واحمد شاه مسعود كانت أكبر دليل على ذلك.

 العوامل الجيوسياسية المؤثرة

هنالك أيضا العامل الجيوسياسي وله دور هام فقد خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها حرب أفغانستان من دون وجود حلفاء في الحرب في الحيز الجغرافي لآسيا بالمفهوم العسكري البحت حيث كانت علاقاتها في باكستان متميزة وبها بعض منطلق عملياتها؛ لكن هذه الأخيرة تعاني الكثير من مشاكلها الداخلية وتعاني أيضا قوة التشابك والترابط بين الشعبين الأفغاني والباكستاني؛ الأمر الذي جعل من باكستان عامل “حضن آمن ولو على المستوى الشعبي لتحركات عناصر حركة طالبان على الحدود بين الدولتين وكان هذا بمثابة قاصمة الظهر للقوات الأمريكية وحلفائها بما فيهم الجيش الأفغاني المنهار”.

أيضا نجد إيران تشبك السواعد متمنية هزيمة نكراء لعدوتها اللدودة؛ الولايات المتحدة الأمريكية ليكون ذلك إضعافا لها وشغلا شاغلا يجعلها تقع في الوحل الأفغاني الذي خرجت منه بذلة وبمعنويات منهارة هي وحلفاؤها وتعلمت من ذلك الدرس  الكثير...

أيضا بقية الدول المجاورة لأفغنستان اغلبها كان يلعب دور أشبه ما يكون بالحيادي في الصراع العسكري الدائر؛ بل يَعتَبر أن الحرب هي صراع عسكري على الحكم بين الشعب الأفغاني الممثَّل في الحكومة والجيش من جهة وبين حركة طالبان التي كانت حديثة عهد بالحكم من جهة أخرى، وقد استطاعت هذه الأخيرة المحافظة على حسن العلاقات بينها وتلك الدول المجاورة في ظرفية حكمها.

عوامل قد سبب انهيار اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية لاحقا

يعد عامل التكلفة الاقتصادية هو العامل الأهم في الأخذ بالحسبان لضمان استمرارية التوغل العسكري لأي محتل، وهذا العامل برز بشكل واضح عن طريق تصريحات المسؤولين الامريكيين في هذا الشأن؛ كما أنه أيضا من العوامل الثانوية المحفزة لعملية انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان هو التنافس  والنفوذ العسكري والإستراتيجي بينها والصين وكذلك بينها وروسيا أيضا؛ هذه الأخيرة التي بدأت تتوغل شيئا فشيئا في غرب إفريقيا ودول المغرب العربي ودول الشرق الأوسط؛ مشكلة بذلك خطرا على الدور الأمريكي في المناطق المذكورة.

ولكن الولايات المتحدة في ٢٠٢١ ليست كما كانت فقد زرعت اعداء ألداء لها في شعوب : منطقة آسيا (أفغانستان وإيران…) وفي الشرق الأوسط (فلسطين، تركيا ومصر...) وحتى في إفريقيا ممثلة في شعوب دول الساحل والصحراء؛ وذلك نتيجة لسياساتها المعادية للإسلام والمسلمين في هذه الدول؛ وليس سجن اكوانتنامو إلا أكبر دليل على ذلك؛ كما أن دعمها القوي والواضح للكيان الصهيوني كان من أقوى أسباب ذلك العداء.

وفي هذه الفجوة المنتظرة من غياب أو ضعف دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم تقف الصين وروسيا “كالاسد المترقب” لفريسته فأوجه تشابه انهيار الاتحاد السوفيتي بسبب انهيار اقتصاداته شبيهة باحتمالية انهيار اقتصاد الولايات المتحدة الذي يعاني تمويل الحرب على تنظيم الدولة في العراق وفي أجزاء من سوريا وفي اليمن وفي افغانستان التي كانت تكلف يوميا ٣٠٠ مليون دولار لمدة عشرين سنة؛ كما أن الجاهزية العسكرية لاحتمال اندلاح حرب مع إيران واحتمال مهاجمة الكيان الصهيوني لأحد المفاعلات النووية الإيرانية من دول مجاورة  (كأذربيجان مثلا) كلها أمور لها كلفتها المالية وإن كانت على حساب دول الخليج حاليا؛ وبالتالي يتضح من سيناريو الانهيار المحتمل أن الولايات المتحدة لن تدخل حربا جديدة مكلفة على غرار حرب أفغانستان إلا وسقطت في وحل الانهيار الاقتصادي الشامل كانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي سابقا.

 هل ما وقع في افغانستان يمكن أن يقع في دول الساحل وغرب إفريقيا وخاصة بجمهورية مالي؛ وهل هنالك أوجه مقارنة؟

بالطبع يمكن أن يقع نفس السيناريو العسكري الملفت لكن هنالك تحديات قد تحد من ذلك وإذا وقع بصفة مفاجئة يمكن التصدي له في الوقت المناسب؛ إذا أخذ الخطر وأبعاده بعين الاعتبار؛ وذلك نتيجة للأسباب التالية:

١- قلة الأعداد العسكرية من المنتمين للحركات المسلحة و الجهادية بمالي(يقدر بأقل عشرة آلاف مقاتل) وضعف الخبرة العسكرية اللازمة لعناصر تلك الحركات أمام قوات الساحل التي تتميز بقدرات رائعة في مجال “التصدي للخلايا النائمة والمتحركة” من تلك الحركات.

٢- تنامي الخلافات العسكرية بين قادة الحركات الجهادية والحركات التحررية الأخرى(الاقتتال الدائم بين داعش الصحراء من جهة وحركة أنصار الاسلام والمسلمين من جهة أخرى كما التنافر الفكري العميق بين الحركات الليبرالي والإسلامية هنالك).

٣- تباعد الهوة وفقدان الحاضنة الاجتماعية لبعض الحركات والتنظيمات(فحركة انصار الاسلام والمسلمين أغلب المنتمين لها من المواطنين الماليين أو من دول جوار مالي بخلاف تنظيم داعش الذي يضم الكثير من القيادات الأجنبية) وبالتالي وجود الحاضنة الاجتماعية أساسي لتحصيل الهدف المنشود.

٤- غياب المؤطر الشرعي لدى بعض الحركات الجهادية وهذا على العكس من طالبان التي لها مجلس شورى يعزز من قوة الإرادة القتالية لعناصرها إنطلاقا من ترسيخ وزن الأفعال والتصرفات على الفتوى الشريعة الصادرة من مجلس الشورى الشرعي.

٥- وجود العديد من الحركات التحررية التي لها حواضن اجتماعية كالحركة الوطنية الأزوادية والحركة العربية الأزوادية بنوعيها؛ وهاتان الحركتان المهمتان بينهما والحركات الجهادية صراع قوي من أجل السيطرة على الأرض؛ الأمريكية الذي زرع عداوة قديمة متجددة قد تندلع شرارتها من حين لاخر كما هو واقع بين منسقية الحركات الأزوادية في شمال مالي والحركات الجهادية (تنظيم الدولة في الصحراء وحركة أنصار الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعده ببلاد المغرب الإسلامي).

٦- طموح بعض الحركات التحررية الأزوادية في الحصول على السيطرة على شمال مالي لإعلان دولة أزوادية مستقلة؛ وهذا عامل مربك للغاية للدولة المالية؛ فأي لحظة ضعف للجيش المالي قد تستغلها هذه الحركات للتمدد نحو أماكن لا تسيطر عليها لتحقيق هذا الطموح، وهذا حقيقة يعطي تعددية للمواجهة بين الجيش المالي من جهة والحركات المسلحة و الجهادية من جهة أخرى.

وبالتالي يمكن أن نستخلص من أوجه المقارنة بين الحركات المسلحة في الساحل والصحراء وحركة طالبان في افغانستان أن العوامل الجيوسياسية والجغرافية والعسكرية مخالفة تماما إذا تمت المحافظة على النسق العسكري الموجود لقوات دول الساحل وقوات المينسما وتم دعمهما بزيادة قوة رباعية قيد التشكل من موريتانيا والنيجر ومالي واتشاد قد تكون مدعومة من دول خليجية في فترتها الأولى.

الكاتب : حناني ولد حناني المدير الناشر لموقع أصداء الإخباري (موقع مختص في أخبار دول الساحل والصحراء). و عضو سابق بمجموعة التفكير الاستراتيجي الدولية عن غرب إفريقيا/نادي الشباب للتفكير الاستراتيجي

تعليقات